بقلم : مرتضى بن حسن بن علي
بداية أدرك أن هذا المقال عن ضرورة إيجاد مدارس للموهوبين قد يثير عددا من التساؤلات والإشكاليات،ولكن ليس هذا الموضوع بجديد،وكان يحصل في عدد من الحضارات السابقة أيضا،كما هو مطبق حاليا في عدد من الدول،حيث يتم الاهتمام بالموهوبين عن طريق إيداعهم في مدارس خاصة (المدارس النموذجية)، وعلة ذلك أن الله خلق البشر مختلفين عن بعضهم البعض،في ميولهم واتجاهاتهم وعواطفهم،في ألوانهم وأشكالهم،في إمكانياتهم وقدراتهم العقلية والجسدية ومواهبهم،وفئة الموهوبين في أي مجتمع قليلة،لذلك من الضروري منح هذه الفئة أحسن الفرص وافضلها،ومن الصعب التصور إن الاهتمام بالموهوبين يمثل اي تمييز،التمييز يكون في الحقوق والواجبات والفرص المتاحة وأمام القانون، فالمدارس والكليات تُكّرِم الاوائل من طلابها،وكذلك الشركات تُكرِم المنتجين والمتميزين من موظفيها،والحكومات تجري مسابقات عديدة لتكريم المتميزين من الأفراد الذين قدموا خدمات متميزة للبلد والمجتمع أو الشركات آلتي تميزت في حقول محددة،وكثيرون من الاباء بما فيهم بعض المسؤولين يودعون أبناءهم في مدارس خاصة للحصول على تعليم متميز يتناسب مع قدراتهم وإمكانياتهم. إهمال الموهوبين بحجة منح فرص متساوية للجميع،ظلم لهذه الفئة من الموهوبين،وظلم للمجتمع،فالعدالة تقتضي بمنح هذه الفئة بما يناسبها، ويحقق لها أقصى درجة ممكنة من النمو، وتفجير طاقاتهم الابداعية والابتكارية. قد يزعم البعض انهم إذا كانوا موهوبين، فما هي الحاجة إلى مدارس خاصة للاهتمام بهم؟ فهم نظرا لكونهم مبدعين، قادرون طبيعيا على التعلم والنجاح بمفردهم من دون مدارس خاصة لهم أو بمنحهم رعاية خاصة، لأنهم قادرون على إيجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم ومن دون مساعدة من أحد،ولكن تفجير ابداعاتهم لن يتم إلا من خلال مدارس خاصة تسمح لهم لإظهار ابداعاتهم،وعكس ذلك مثلما تظهرها دراسات عديدة،فإنهم سوف يعانون من مشكلات عديدة ومختلفة، وسوف يواجهون بعض المعوقات في بيئاتهم الأسرية والمدرسية والمجتمعية، كما أن المجتمع ككل لن يتمكن من الاستفادة القصوى من ابداعاتهم. يجب ان لا يغيب عن بالنا ان التنمية البشرية بمنظارها العملي الأوسع بحاجة إلى طبقة رائدة من الاشخاص الذين يقع عليهم عبء قيادة التنمية بجميع انواعها، ولا سيما نحن نتكلم عن إقتصادنا المستقبلي القائم على المعرفة،حيث تكون للقوى العقلية وما تحتويها من عناصر الإبداع،وليست القوة الميكانيكية او الجسدية التأثير الأكبر،وحيث إنه لا توجد طريقة سريعة أخرى يمكن إتباعها، فسوف يعتبرهذا الاجراء معقولا، بل مطلوبا. ان مسؤولية اية حكومة هي التأكد من سلامة إجراءاتها الاقتصادية والتعليمية ومتانتها، وعلى ضرورة توفير طبقات قادرة على إدارة العملية التنموية، فالمؤشرات بل الادلة التي تفرزها التطورات العالمية المتسارعة تُحتم علينا أكثر من أي وقت آخر على إعطاء أهمية قصوى للموهوبين واكتشافهم ورعايتهم، ونظامنا التعليمي عليه أن يعطي أهمية بالغة لهذه الفئة للاستعداد لمواجهة كافة المتغيرات العالمية والمحلية والظروف الحالية والمستقبلية. مرحلة التعليم الاساسي «الابتدائي والمتوسط والثانوي» تعتبر أكثر مراحل التعليم فاعلية وتأثيرا لاكتشاف الموهوبين،وتنمية ورعاية وتنمية قدراتهم، لإيجاد جيل من الاشخاص المفكرين والمبتكرين والمبدعين وقادرين على المساهمة الفعالة لصنع مستقبل أفضل لهم ولاسرهم ولمجتمعهم الكبير.اتاحة فرصة التعليم للجميع والرقي بالعملية التعليمية عموما مهمة جدا، ولكن الاهتمام بالموهوبين مهم جدا أيضا ليتمكنوا من حمل مشاعل النور وتحقيق النهضة المتجددة،والمجتمعات عبر تاريخها القديم والحديث أعطت مزيد من الاهتمام لرعاية هؤلاء الموهوبين صناع المستقبل وقادته وعلمائه حتى تتحقق لها القيادة والرعاية والتقدم.الثورة التكنولوجية الرابعة آلتي تكتسح العالم هي ثورة غير مسبوقة،وتختلف عن الثورتين الاولى والثانية في عدد من الوجوه، فالثورة الرابعة مثل الثورة الثالثة تعتمد على المعرفة العلمية المتدفقة، والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة،وحجم المعرفة سيتضاعف في عدد قليل من السنين المقبلة ،وسوف يكون مساويا أو يزيد عما تراكم من المعرفة الانسانية منذ بداية الثورة الزراعية قبل نحو عشرة آلاف سنة.وعلى سبيل المثال، فإن المعرفة الإنسانية كانت تتضاعف كل مائة سنة قبل الحرب العالمية الأولى،وبسبب الاكتشافات العلمية المستمرة من قبل الموهوبين، أصبحت المعرفة الانسانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ تتضاعف كل خمسة وعشرين عاما، ثم بدأت تتضاعف كل عشر سنوات مع حلول التسعينات من القرن الفائت ويُقدر إنها سوف تتضاعف كل ١٢ ساعة خلال السنوات القليلة المقبلة،أي إن المعرفة البشرية المتراكمة سوف تتضاعف يوميا من كل المعرفة البشرية المتراكمة منذ التاريخ المُسجل للإنسان، آي منذ نحو أكثر من عشرة الاف سنة. وهذه الثورة تختلف عن الثورتين الاولى والثانية في عدد من الوجوه، فبينما كانت الثورة الأولى تعتمد على قوة البخار والميكانيكا والفحم والحديد، وعلى الرأس المال العصامي،وعلى قوة الدولة المباشرة لتأمين مواد الخام،وفتح الاسواق العالمية بالقوة من خلال الاحتلال العسكري السافر، وبينما كانت الثورة الثانية تعتمد على الكهرباء والنفط والطاقة النووية وفن الادارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة،فإن الثورة الرابعة تعتمد أساسا على العقل البشري والالكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية والذكاء الصناعي الذي قد يفوق الذكاء الطبيعي، وتوليد المعلومات حول كل شؤون الافراد والمجتمعات والطبيعة، واختزان المعلومات واستردادها،وتوصيلها بسرعة هائلة، بل أنية،وكذلك على ألإستخدام الامثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة،ولإن العقل البشري،وليس القوة العضلية أو الميكانيكية هو العماد الاول لهذه الثورة، ولانه يمثل طاقة متجددة لا تنضب،فإن الثورة التكنولوجية الرابعة وما سوف تليها سوف لن تكون حكرا للمجتمعات الكبيرة المساحة،أو ضخمة السكان،أو الغنية بمواردها الاولية أو القوية بجيوشها التقليدية،بل يمكن لجميع شعوب العالم أن تخوض غمارها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة، إذا أحسنت إعداد أبنائها تربويا وتعليميا وتدريبيا، وتفجير القوى الإبداعية في عقول أبنائها وبناتها،والدليل على ذلك إن عددا من الدول ومنها سنغافورة، الصغيرة جدا في مساحتها، والتي تفتقر إلى أية موارد طبيعية،ومع ذلك استطاعت على استثمار وتطويع مواردها البشرية المتاحة، باسلوب علمي صحيح، مما مكنّها أن تكون على قائمة الدول المتقدمة في العالم في ثورة المعلوماتية والتكنولوجية، وإذا لم نتمكن من استيعاب تكنولوجيا العالم المتقدم،فإنها سوف تنطوي على أذى كبير لنا،لإنها سوف تحيل معظم أنشطتنا ووظائفنا الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها،وتكون عبئا ثقيلا على كواهلنا،وبالعكس فإنها سوف تنطوي على منفعة كبيرة لنا، إذا تمكنا من استيعابها وتوطينها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية،والاشخاص الموهوبين عندنا سوف تلعب دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات التكنولوجية الحاصلة أو التي قد تحصل غدا وبعد غد. في ظل عصر العولمة والتنافس الشديد بين الدول الذي لم تشهد له البشرية مثيلا في التاريخ، أصبح ضروريا الاهتمام بطاقة كل افراد المجتمع ولا سيما طبقة الموهوبين للارتقاء بالجهود في مجال التفوق والموهبة،ولم يعد مفهوم الموهبة محصورا بالذكاء وحده، بل تعدى المفهوم الى القدرات الكامنة التي لم تبرز بعد لعدم توفر الفرص المناسبة لبروزها، فقد اصبح الموهوب متميزا في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة. كيف تتمكن وزارة التربية والتعليم من القيام بالاهتمام بهذه الفئة الموهوبة؟ عموما في ظني على الوزارة القيام بالخطوات الخمسة التالية: أولا: على الوزارة إيجاد المدارس الخاصة عن طريق دراسة الوضع الحالي للمدارس، وحصر الاحتياجات الخاصة للمدارس النموذجية. وثانيا: توفير الاحتياجات والخدمات ونوعية المدرسين والموظفين لتلك المدارس. وثالثا: تفعيل مراحل الكشف عن الموهوبين حسب آليات محددة متبعة في العالم وتحديد جدول زمني محدد، يتم مراقبته باستمرار. ورابعا: مراقبة ومتابعة العملية التنفيذية، ورصد تفعيل الخطة الاجرائية. وخامسا: تتم عملية التقييم وحصر نقاط القوة والضعف وتحسينها باستمرار. كل ذلك سوف يقتضي من الوزارة توفير الاخصائيين سواء من داخل عمان آو من خارجها،ومتابعة ملف لجنة رعاية الموهوبين،والتأكد من أن الوثائق المتعلقة من إجراءات تحديد الموهوبين والمعايير الموضوعة لتوظيف الخدمات لهم دقيقة، ويمكن الوصول إليها والاطلاع عليها من قبل الوالدين وأصحاب المصلحة الآخرين