بيتر ساذرلاند
لقد زودتنا أزمة الهجرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط بدرسين على قدر عظيم من الأهمية. فأولا، تتبنى أوروبا والمجتمع الدولي أنظمة غير كافية على الإطلاق لحماية المهاجرين المستضعفين. وثانيا، في غياب مثل هذه الأنظمة، يستغل القادة الشعبويون الخوف لكسب الدعم السياسي، وتقويض المجتمعات الليبرالية المتسامحة التي استغرق بناؤها سبعين عاماً من العمل الشاق.
ولهذا السبب يُعَد التحرك القوي على المستويين الأوروبي والعالمي ضرورة أساسية هذا العام. في شهر سبتمبر سوف يعقد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قمة غير عادية مخصصة لبناء نظام عالمي عادل لحماية اللاجئين والمهاجرين المستضعفين. ولا يملك المرء إلا أن يأمل أن يذهب قادة الدول إلى مؤتمر القمة وهم على استعداد لتقديم التزامات دائمة وملموسة.
كانت مثل هذه الالتزامات مفتقدة إلى حد مؤلم في عام 2015. والواقع أن المجتمع الدولي كان ليتمكن من تخفيف أزمة العام المنصرم من خلال تقديم حتى الدعم المتواضع للدول الثلاث على خط المواجهة الأول ــ تركيا ولبنان والأردن ــ والتي تستضيف مجتمعة نحو أربعة ملايين لاجئ سوري. فبتكلفة تقدر بنحو 10 مليار يورو (10.8 مليار دولار أميركي) فقط، كانت هذه الدول لتتمكن من تقديم سكن وغذاء وتعليم أفضل للاجئين، وبالتالي التقليل من الحافز للفرار إلى أوروبا. وفي نهاية المطاف، قد يكلف هذا الفشل ألمانيا وحدها ما يقرب من 21 مليار يورو سنوياً لأعوام قادمة.
بيد أن العواقب المالية المترتبة على الأزمة تتضاءل بالمقارنة بالتكاليف البشرية والسياسية. لقد خاطَر أكثر من مليون إنسان بحياتهم بعبور البحر الأبيض المتوسط العام الماضي، ثم تحملوا رحلات شاقة عبر البلقان. وقد توفي ما يقرب من 4000 إنسان في الطريق، وأدارت بلدان أوروبية عديدة ظهرها للناجين رافضة منحهم الملاذ الآمن.
وقد استغل القادة السياسيون الهازئون المخاوف الشعبية أقصى استغلال من خلال الترويج لرؤية قومية بغيضة تتجاهل أو تشوه خبرات الواقع الحقيقي في التعامل مع الهجرة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، لم ينفذ أي لاجئ من أصل 780 ألف لاجئي أعيد توطينهم هناك منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، أي هجوم إرهابي. ومن ناحية أخرى، تفوق الضرائب التي يدفعها المهاجرون عادة كل ما يتلقونه من فوائد.
ومع ذلك، اقتربت قوى متطرفة إلى حد خطير من تولي السلطة السياسية في بعض الدول الأوروبية، وهي تكتسب المزيد من الثِقَل حتى في المعاقل الليبرالية سابقا. فقد وصلت الأحزاب المعادية للمهاجرين إلى السلطة بالفعل في المجر وبولندا. ويعمل نجاح هذه الأحزاب على إرغام أحزاب التيار السائد على تبني سياسات معادية للمهاجرين هي أيضا.
وكان كل هذا سبباً في إضعاف التعاون الأوروبي إلى حد خطير. فلم ينجح برنامج الاتحاد الأوروبي لمعالجة مليون لاجئ وصلوا إلى شواطئه إلا في "إعادة توطين" 190 لاجئ فقط. كما أعيد بناء نقاط التفتيش على حدود ست دول داخل منطقة الشنجن، ولو مؤقتاً على الأقل. وفي نظر بقية العالم، يبدو الاتحاد الأوروبي شوفينياً وعديم الكفاءة.
لا شك أن حل هذه الأزمة لا يقع على عاتق أوروبا فقط؛ ذلك أن المسؤولية لا يحددها قرب المسافات فحسب. بل إن الاتحاد الأوروبي ربما يواجه الآن تهديداً وجوديا، وهو ما لن يتمكن من التغلب عليه إلا من خلال الاستعراض القوي للتضامن والزعامة العالمية. ولهذا السبب، يتعين على بلدان الاتحاد الأوروبي أن تأخذ زمام المبادرة في اقتراح الحلول.
وتتمثل الأولوية الأكثر إلحاحاً الآن في إنشاء مسارات آمنة يسلكها اللاجئون الراغبون في الوصول إلى أوروبا. ولا يعني هذا أن كل مهاجر معرض للخطر لابد من قبوله. ولكن الاتحاد الأوروبي لابد أن يكون أكثر سخاءً في تحديد عدد المقبولين، كما ينبغي له أن ينفذ سبلاً منظمة لتيسير الدخول. ومثل هذا النظام من شأنه أن يحمي المهاجرين ويصون أوروبا (من خلال تمكينها من غربلة طلبات اللجوء بكل دقة).
وبعيداً عن الحد من الحوافز التي تدفع طالبي اللجوء إلى المخاطرة بحياتهم ومدخراتهم وعبور البحر الأبيض المتوسط، فإن مثل هذا النهج من شأنه أن يُظهِر التضامن مع دول خط المواجهة، التي ستستمر في استضافة أغلب اللاجئين. وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن هذا النهج كفيل بفرض الضغوط على بقية المجتمع الدولي لحمله على المساهمة.
ويقودنا هذا إلى الأولوية الثانية في عام 2016: بناء نظام عالمي قوي لحماية اللاجئين وغيرهم من المهاجرين المستضعفين. ويتطلب هذا، أولاً وقبل كل شيء، موافقة عدد أكبر من البلدان على قبول اللاجئين. في السنوات الأخيرة، تمكنت وكالة الأمم المتحدة للاجئين من إعادة توطين أقل من 75000 ألف لاجئ من أكثر من 20 مليون لاجئ سنويا. وتنتهي الحال بالملايين إلى النزوح لفترات طويلة، وقضاء ما يقدر بنحو 25 عاماً في المتوسط في طي النسيان لا يعلمون متى قد يكون بوسعهم العودة إلى ديارهم.
ويتعين على البلدان المتقدمة في عام 2016 أن تتفق على قبول نحو مليون لاجئ سنوياً في الإجمال، سواء من خلال إعادة التوطين أو عن طريق إصدار تأشيرات إنسانية وتعليمية، وتأشيرات عمل، وغير ذلك من أشكال التأشيرات. ومع إعلان كندا عن اعتزامها إعادة توطين 50 ألف لاجئ سوري هذا العام، فمن الواضح أن هذا الهدف قابل للتحقيق.
ومن ناحية أخرى، يتعين على المجتمع الدولي أن يدعم إدماج اللاجئين في الدول المضيفة الرئيسية مثل تركيا وكينيا ولبنان والأردن. ذلك أن هذه البلدان تتلقى حالياً جزءاً ضئيلاً فقط من مبلغ يتراوح بين 3000 إلى 5000 دولار اللازم لكل لاجئ سنوياً لتوفير الإسكان الكافي والغذاء والرعاية الصحية والخدمات المدرسية والتدريب المهني خلال السنوات الأولى القليلة من النزوح. ولا يشمل هذا تكاليف بناء أو تطوير البنية الأساسية. على سبيل المثال، يترنح نظام إمدادات المياه في لبنان تحت وطأة الإجهاد الناجم عن التدفقات الهائلة من اللاجئين. وفي مقابل التمويل، ينبغي للدول المضيفة أن توافق على إدماج اللاجئين بشكل كامل في مدارسها وأسواق العمل والمؤسسات المدنية لديها.
بيد أن إدماج المهاجرين سيكون أشبه بمهمة مستحيلة ما لم تغير الدول الأوروبية وغيرها من الدول الكيفية التي تنظر بها إلى المهاجرين. فإذا نظرنا إلى المهاجرين باعتبارهم عبئاً أو تهديداً أمنيا فإن القوى السياسية الرجعية سوف تستمر في اكتساب الأرض، وهذا من شأنه أن يحد بشكل كبير من الفرص المتاحة للوافدين الجدد وتحويل هذه المخاوف إلى نبوءات تتحقق ذاتيا. ولكن إذا بادرت الدول المضيفة إلى إدماج المهاجرين بحماس فسوف يستفيد الجميع ــ بما في ذلك البلدان الأصلية (من خلال التحويلات المالية على سبيل المثال).
لقد أثبت المجتمع الدولي في باريس الشهر الفلائت قدرته على إخضاع المصلحة الذاتية الوطنية لهدف عالمي أكبر: مكافحة تغير المناخ. وفي عام 2016، لابد أن يحدث نفس الشيء من أجل التوصل إلى نظام أفضل لحماية المهاجرين. وإنها لمسألة حياة أو موت بالنسبة لعشرين مليون لاجئ فضلاً عن ملايين من المهاجرين الآخرين المعرضين للخطر ــ واختبار عميق للصحة المدنية في المجتمعات الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم.
ممثل الأمم المتحدة الخاص للأمين العام لشؤون الهجرة الدولية.