الرصاص لا ذاكرة له

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٤/أغسطس/٢٠٢١ ١٣:٤٨ م
الرصاص لا ذاكرة له

بقلم: فوزية بنت علي الفهدية

رواية مادتها الإنسان، وليس أي إنسان، فهو من امتهن الشجاعة منذ الصغر، " من يوم كان طوله أقصر من باكور أبيه"، أو أنها جاءت من ساعة مولده التي وافقت "يوم مدمومة الصفة، وحد يقول يوم مفسولة الخصاب حدري البيت"، ليكون من بعدها وطوال حياته "ذئبا لا حملا".

هي سيرة " سعيد بن راشد الكلباني"، والتي بدأ بروايتها يوم ان " لم يعد معالي الفريق الأول، بل معالي المستشار"، وبعد أن أيقن بأن السيرورة والتغير هما الواقع الوحيد كما قال نيتشه، أو كما يرى هرقليطس أن الحياة تسير على نحو تشتعل وتنطفئ بإعتدال، لتسير أحداث الرواية على نحو استرجاعي أوتوبيوغرافي، وإجترار لزمن الماضي يوم ان عرف " واجبه أن يبقى يقظا، معتزا بنفسه، بكبريائه الخاص، وإن تعددت المسميات الوظيفية، فما حملته الاكتاف، من علامات على المسمى، أزهر بما تساقط من عرق الجبين، والروح التي لا تنهزم".

في ذكريات هائمة ينفث عنها غبار السنين، ليبوح بتفاصيل من عالمه الداخلي وما بين خلجات الروح، في تطواف عبر الذاكرة، وذكريات تسير جنبا الى جنب وعلى نحو مواز ليومياته الجديدة التي أدرك فيها انه " لا يعرف سوى أن عليه الترجل عن صهوة عشق أزلي"، " يتتبع جريان نهر الذكريات من بين يديه، عابرة الى المسافات التي ذرعها طفلا وفتى وشابا".

ويوم أن كان للقارئ سيرة " جندي من مسكن"، في كتاب شهد الذاكرة، أصبح بمقدوره أن يقرأ عن سيرة تعبر به في دلالات أعمق من سيرة الإنسان، وترسم من سيرته فنا، في تكنيك بديع قائم على الذكرى، وفي ترادف متناغم مع الحياة العادية، وفي إزدواج وجودي مع تجليات بهواجس صوفية، وبخيال منحها صفة النص الأدبي الروائي، فقام الكاتب بموهبته، تحويل الأحداث الواقعية الى بنية فنية جمالية وبلغة سردية تمايزت بين سرد الفصيح، والحوار المحلي، ليعطي للنص نكهته العمانية الأصيلة، ليقربنا من البطل إبن المجتمع، كجوقة موسيقية تسير في تناغم هارموني، ليروي عن تلك الأحداث التي رسمت خط سير حياته، ولينتقي أحداثا بعينها، من يوم أن أصابته " حماته "، " قبل أن يقارب الطب الحديث بينها وبين الحمى الدماغية".

بدأت جل الحكاية بحلم ولد في مسكن "قفل عمان"، حلم إن لم يتحقق لأخذه الى زوايا الإغتراب، فلقد عرف أن " الخير يكمن في باطن الشر"، لتسير بعدها الأحداث في نزعة بطولية ولتشهد حياته "الكلباني" تقلبات كثيرة، فيكون أيقونة لنظال أسطوري مخلد، فقد أيقن أن " من يغفل يمت"، وأن " خطر الموت خارج سطوة القبيلة الدرع الذي كان الاقوى والمهيب"، فلقد تلقى تعليمه الأول " في مدرسة المطوع الواقعة في الظل مابين أمباة الفلج والنارنجة"، لتأخذه بعدها هو وزمرة من رفاقه :" سيارة البيدفور تخضهم كما لبن في سعن".

ليحكي بعدها عن احداث امتلأت بها سراديب العمر، في وابل من الذكرى، ترسم لنا من الحكمة بقول مأثور شامل، وبثراء دلالي تجاوز حدود الرمز بالتصريح، " المحارب لا يسلم بندقيته الا بعد ان تغادر الروح هذا الجسد الفاني الى بارئها"، ليخرج فحوى العمل بنثر يحلق بك في فضاءات النضال، " حيث أن للحرب شروطها، فلا يمكن أن تظل كل الرصاصات طائشة".

رواية تشعر معها وكأن الزمن قد استطال، ليعطي تلك التفاصيل نصيبا وافرا من الوقت، مما يدفعك الى الشعور بالمفارقة بين زمانين، في زمن " لم تعد مسقط تضرب النوبة لتهجع مع غروب الشمس في زرقة بحرها"، وفي سرد لا يخلو من المعرفة بإيغال في الهوية العمانية، فلقد عايش أحداثا " استعصى فيها المشهد على القراءة"، في أحداث كان فيها الموت " قاب قوسين او أدنى"، فيسترجع "مهماته العسكرية في الجبل الأخضر وظفار"،  ليسرد الاقاصيص عن " المدفع المسروق من برج المكلا "، ويروي عن " التفجيرات الثلاثة"، لتستريح ذاكرته بعدها على قصر العلم يترحم لجلالة السلطان " هجع في سكينة غابت به في عتمات حزن لا مرئي، يكاد يطفر بالدمع من بين اضلعه"، الى يوم ان "بدت البدلة متوجة بألق باذخ"، " تتكدس الأوسمة والنياشين"، ليخرج لأحفاده من صندوق الذكريات " تاجا ونجمتين وسيفين".