السياحة ليست تلفريك

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٣/أغسطس/٢٠٢١ ٠٨:٥٥ ص
السياحة ليست تلفريك

بقلم: خالد عرابي

إن الطريقة والأسلوب والصراحة والشفافية التي تعاملت بها وزارة التراث والسياحة في الرد على تكرار شائعة الاتفاق على إنشاء تلفريك كانت في منتهى الجرأة والمهنية والوضوح بل وكانت لطمة قوية على وجوه رواد وسائل التواصل الاجتماعي وغيرهم ممن يريدون توريط الوزارة في أي مشاريع سياحية على عجالة حتى وإن كانت غير مدروسة ، كما كانت رسالة صريحة وقوية موجهة لمن يفتون بغير علم وفي كل شيء وتراهم يفتون ويهرتلون في كل شيء وكأنهم خبراء وعباقرة زمانهم ، وأنهم يفهمون في كل شيء وأن ما سواهم وكأنه جاهل في حين أنه العكس لأنه متخصص في هذا المجال.

هناك سمة ظاهرة انتشرت مؤخرا لعلكم تابعتموها مثلي - وأرجو من يصححني أو يردني في ذلك- فكل يوم يخرج علينا شخص ما وقد خرج لزيارة ولاية أو قرية خارج قريته وما أن رأى تجمع ل "حفنة" مياه في منطقة معينة وأنها أعطت ألوان ما إلا وقال أنظروا إلى هذه البحيرات الطبيعية في بلادنا .. أو من وجد خرير ماء من الأرض إلا وقال أنظروا هذه العيون الطبيعية أو سقوط حبة مياه من أعلى جبل إلا وقال أنظروا هذه الشلالات.. ويكمل قائلا: إن بلانا بها الكثير من الكنوز السياحية ولكنها مهملة ولا يعلم بها القائمون على السياحة .. ثم يكمل السياحة لن تتطور طالما عليها عقول رجعية .... " ..

الأمر الغريب بل والأكثر غرابة أن عشرات بل مئات من الأشخاص في وسائل التواصل الاجتماعي في كل يوم يفتون وكل من اتيحت له الفرصة وسافر لدولة ما وشاهد معلم أو مدينة أو مكان رجع صور لنا و" لزق" علي تويتر أو انستجرام قائلا: "هو المكان الفلاني اللي عندنا مش شبيه بهذا المكان وأفضل منه ، للأسف عقول رجعية وما يصير كدا لازم تسوون مثل هذا .. "

أو سمة نوع أخر من الأشخاص، فيأتي لك شخص ما لمجرد أنه "حوش" طوال العام أو أخذ سلفة من بنك وسافر "كمين يوم" خارج البلد يريد أن يفرد عضلاته على الآخرين وأن يبين أنه "الواد الفت النت" وأنه هو ابن بطوطة زمانه الذي زار العالم وينشر في حسابه الخاص: "شوفوا يا جماعة الخير أليس هناك الكثير من المناظر الخلابة مثل هذه، شوفوا كيف يستغل الآخرون الأماكن والمناطق في البلدان ولكن عندنا جماعتنا مغيبون لا يديرون بالا للاهتمام بالسياحة ولا يهتمون بهذه الأمور .. ويكمل أيضا: كيف تتطور السياحة وأن بعض القائمين عليها يعيشون بعقلية الماضي ..... وهكذا " .

ونقول لمثل هؤلاء: "طيب كلام معقول أنت محب لبلدك و "واخداك" الوطنيةً وتريد الخير ولذا تقارن، ولكن هل نظرت للأمر برمته وأين يقع هذا المعلم الذي قارنت بينه في بلد ما وفي أي منطقة سياحية في بلدك وكم يزورها من السياح سنويا وهل علمت كيف وكم انفق البلد الآخر لوضع هذا المعلم علي خريطة دولته السياحية ومنذ فترة مبكرة مثلا فأصبحت وجهة معروفة وكم استغرق التسويق لها لتصبح وجهة معروفة بهذا القدر .. "

لقد أعتدت كصحفي متخصص في الشأن السياحي مع العديد من الدول وهيئات السياحة ووجدت أن بعض الدول الآسيوية على سبيل المثال ومنها تايلاند مثلا ، كانت وما زالت تحدد على رأس كل خمس سنوات ولاية أو مدينة ما من مدنها لتكون وجهة سياحية مستقبلية ، وبعد أن تنجح في ذلك وتضعها ضمن قائمة الوجهات المعروفة عالميا سياحيا تتجه للتخطيط لأخرى غيرها وهكذا ، ومن ذلك أن تايلاند بعد أن نجحت في إبراز ولايات مثل بوكيت وبتايا وتشانج ماي ، توجهت مؤخرا لإبراز مناطق مثل هواهين وخواخين وجزيرة كرابي وهكذا .. ولذا فلا نستطيع أن نحكم على الأمور جزافا وأنما لابد من تخطيط و رؤى و إستراتيجيات تدرس وتوضع لمثل هذه الأمور ..

إذا فإن المقارنة العامة السطحية ظالمة ، فعلى سبيل المثال حينما كنت في متحف متروبوليتان بنيويورك في الولايات المتحدة في إحدى المرات، وكانت في عام 2017 أخبرني المرشد السياحي هناك أن قسم الآثار الفرعونية في المتحف وفي ذاك الوقت يزوره سنويا خمسة ملايين زائر ، وحينما كنت في متحف اللوفر بباريس وكنت أصارع مع الزائرين لأخذ حظي و دوري في الوصول للوحة الجيوكندا (الموناليزا) للفنان العالمي دافنشي وبعد وصولي لها أجدها لوحة صغيرة جدا لا يتجاوز حجمها كما اتذكر 80 – 90 سم تقريبا، ولكن أعرف أنه مع صغر حجمها هذا يزورها سنويا أكثر من ثمانية ملايين زائر .. وحينما نقارن بالأعداد هنا ونرى أن هذه الأعداد لزيارة معلم واحد في بلد ما أجنبي تضاهي زوار بعض الدول بأضعاف ، إذا أليس من المقنع هنا أن المقارنات العامة والسطحية وبدون أسس علمية ومقاييس واقعية تكون ظالمة .

شيء بالشيء يذكر أنه في أحد مقاطع الفيديو التي أرسلها لي مؤخرا صديقي الهندي "ماثيو" من ولاية تشناي (تاميل نادو) الهندية وهي واحدة من أفضل وأقوى الولايات الهندية ويتميز أهلها بأنهم ذووا لغة وثقافة هندية مختلفة عن بقية الولايات الهندية، ويتميز أهلها بأنهم متميزون عن بقية الهنود بل ولمن عاشرهم بسيماهم وبشرتهم الأكثر سمرة إلا أنهم يشتهرون أيضا بأنهم عمال مهرة وعمليون محبين للعمل هم وأهالي ولاية أخرى تسمى "كيرلا" وأنهم مثقفون جدا لدرجة أن الأمية في هاتين الولايتين تقترب من الصفر ، ولذا فإنهم يعرفون ببراعتهم في أيضا في التجارة والعلوم كما أنه من أبرز المجالات التي تخصصوا فيها مبكرا التكنولوجيا وهي التي جعلتهم يغزون ومنذ فترة مبكرة العالم من خلالها، فتجدهم منتشرون في الولايات المتحدة وأوروبا و دول الخليج العربي وغيرها . اقرأ أيضًا: وزير السياحة: إنشاء المرافق العامة ليس من اختصاصنا

المهم في هذا المقطع الذي الذي أرسله صديقي الهندي – الذي عرفته قبل 15 عاما- وبعد أن قضي في سلطنة عمان مدة عامين مترأسا لقسم تقنية المعلومات رغم أن سنه في حينها كان 23 عاما ، وسافر وما زلنا أصدقاء حتى الآن - يتحدث في هذه المقطع راهب أو كما يبدو لي رجل دين من دياناتهم أو من معتقداتهم -لأن المعتقدات عندهم بالعشرات بل بالمئات-، و يتحدث في نفس القضية فيقول "في المقطع" أنه في المجتمع الهندي تكثر الفتوى والفتي ونرى في كل يوم وخاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي التي أظهرت ذلك أن كل شخص يتحدث في كل شيءٍ ما علم وما لم يعلم ، فالشخص العادي كعامل بيع الشاي تجده يتحدث في السياسة وكأنه أفضل خبير سياسي، ويتحدث في الفضاء كأنه عالم فضاء، وفي الطب كأنه أفضل طبيب أو جراح في العالم ، وفي كرة القدم وكأنه ميسي، وهكذا يتحدث في كل القضايا والأمور ويحلل ويفتي كخبير ولكن في المقابل إذا كان عاملا يبيع في محل شاي كرك مثلا يفتي وكأنه أفضل عالم أو خبير في كل شيء وفي كل ما سبق، ولكنه وبكل أسف لا يجيد عمل هذا الشاي الذي يقدمه والذي يقتات منه قوت يومه ما قصده هذا "المهراجا" وما قصدته إذا أنه وبكل أسف وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت السمة العامة والغالبة بل والأولى الآن هي الفتي والفت بدون علم، فليس بمستغرب ما يحدث عندنا ولكن وللخلاصة ولجماعتنا أقول: "يا جماعة الخير السياحة ليست تليفريك ولا تطوير وادي ولا رش ميه جنب الفلج .. السياحة إستراتيجية ورؤية وفكر وثقافة ، فدعوا للمسئولين عملهم ودعوا لكل شخص مسؤوليته" .