زاهر الغافري.. شاعر الحضور والغياب والغربة

مزاج الثلاثاء ٢٦/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٥٠ ص
زاهر الغافري.. شاعر الحضور والغياب والغربة

مسقط - العمانية
يبرز اسم الشاعر زاهر الغافري كثيرا في الحديث عن التجربة الشعرية الحديثة في عُمان.. إنه صوت حفر لنفسه مكانة في التجربة، ولذلك لم تكن كتابته مجرد اجترار وتكرار للسائد، بل كان إبداعا من نوع متميز.
وبعد سنوات من الكتابة والمعاناة في حضن الشعر وبجواره صارت تجربة الغافري تجربة تستحق الكثير من الوقوف على معالمها والحديث عن تفاصيلها خاصة ما يتعلق منها بثيمة الترحال والسفر والتنقل. فهذه الثيمة هي الأكثر حضورا في تجربة الغافري حتى أن لجنة تحكيم جائزة "كيكا" نوهت إلى هذه عندما منحته الجائزة قبل سنوات واعتبرت قصيدته قصيدة اغتراب وبحث عن الجمال في تعالقاته الإنسانية، تقديراً خاصاً لانفتاحها على الآخر واقتراحاته الجمالية من دون انقطاع عن جذورها العميقة، حيث ظلت تتغذى من تلك الينابيع البعيدة التي أمدتها بأول قطرة وشكلت نسقها الحيوي. وبهذا تسهم تجربة الغافري بانتمائها إلى طور شعري عربي مهجري في اغناء المشهد الشعري العربي الحديث بنبرة مميزة، وتوضح كذلك تواصلها، تأثراً وتأثيراً، مع المجرى العام للقصيدة العربية الحديثة الراهنة في لحظة محتدمة من الصراع على بلورة صورة جديدة للهوية العربية التي يسعى الشعر إلى إبرازها، من ضمن فنون أخرى، إلى صوغها على أسس إنسانية.
وعلى أية حال ليس الغافري وحده الذي يجب التوقف عنده حول موضوع الاغتراب في الشعر فهناك شعراء كثر توقفوا عند الاغتراب كثيرا خاصة أصحاب تجربة الستينات ومطلع السبعينات من القرن الفائت. والحق أن هذه الثيمة بدأت قبل ذلك فالعمانيون رحالة منذ قرون طويلة، خاضوا البحار شرقا وغربا وترحلوا بين الهند والسند ونقلوا مملكتهم إلى شرق أسيا ما يعني أنهم جربوا فكرة الترحال وعايشوها حقيقة وليس على سبيل إستدعاء الفكرة ومعايشتها في النص الشعري فقط.
أما فيما يخص الشاعر زاهر الغافري فإن حضوره في المشهد الشعري العماني يبدو حضورا مخاتلا وملتبسا، فرغم أن سيرة الشاعر تشير إلى تنقله وإقامته في أماكن متعددة بين العراق والمغرب وفرنسا والولايات المتحدة والسويد إلا أن الشاعر يشكل جزءا مهما من المشهد الشعري، وترتبط قصيدته بواقعها ومجتمعها بشكل كبير جدا.
لكن ذلك لا يعني أن شعر الغافري يخلو من حالة الاغتراب، فهي من لحظة الولادة الأولى موجودة في شعره، وتعكس حالة اغتراب تجعل من كل مكان وجهة للرحيل ومنطلقا للارتحال بحثا عن عالم لا سبيل للوصول إليه.
ولا تعني عودة زاهر الغافري إلى السلطنة بعد سنوات من الترحال والغربة انتهاء لتلك الثيمة في شعره.. بل بقيت حاضرة ومرتبطة بكتاباته وكأنها مسكنه الوحيد، إنه الحاضر الغائب.. أو هو صاحب الحضور الذي يبدو بطعم الغياب والعكس صحيح في حالة الغافري أيضا.
وتغيب قصيدة زاهر الغافري لفترات طويلة، لكنها ما تلبث أن تعود، وهو ما يعلله زاهر الغافري نفسه بالقول إنه عائد إلى كثرة التنقل في حياته خاصة إلى بعض الدول البعيدة. وهو يعترف بأن هناك نوعًا من الابتعاد عن النشر في العالم العربي لكن يبقى وفيا للكتابة دائما على حد تعبيره.
ولكن لماذا هذه الهجرات التي صبغت تجربة زاهر الغافري؟
يبدو الأمر متعلقا بالبعد الشخصي في تجربة زاهر الغافري الحياتية.. فبدأت هجرته الأولى إلى العراق في عام 1968 كان ذلك بسبب الدراسة في المقام الأول، ومن المفارقات التي دائما ما يحلو للغافري الحديث عنها أنه بعد وفاة والدته أراد أن يبحث في السفر عما يعوضه عن حس الأمومة، وهو ما وجده في سنواته الأولى في بغداد.
وبدا أن الانتقال من مكان إلى آخر أشبه بالمرض بمعنى أصبح جزءا من تكوين الشاعر لذلك احترف العيش في المغرب وباريس ونيويورك، وفي مراحله الأخيرة في السويد والتي امتدت لسنوات طويلة في مدينة مالمو، وهي المدينة الثقافية للسويد. هذه الانتقالات دفعت تجربته الكتابية إلى مدى أكثر رحابة.
ويبدو تأثير المكان الأول حاضرا في نص الغافري، ويشتغل عادة موضوعات أو ثيمات لها علاقة بمفهوم الحنين والغياب، ولكن الحنين ليس بمفهوم الماضي فقط، هناك فهم آخر مع الشاعر، يمكن إزاحة مفهوم الحنين إلى أن يقارب المستقبل أو أن يتجه باتجاهه. وفي نصوصه الحديثة يبدو المكان الذي انطلق منه أكثر وضوحا. لكن أيضا لا يعني أن مكانه الأول ثابتا، فهو يؤمن بفكرة أن المكان في تغير مستمر مثله مثل الإنسان.
هكذا هو إذن زاهر الغافري وهو تجربة حية وغنية تستحق العناية والدراسة النقدية كثيرا.. وكان أن احتفل به مهرجان الشعر العماني في دورته الأخيرة في مدينة نزوى.. وكانت وقفة المهرجان موفقة جدا، خاصة وأن حضور الشاعر محليا لا يوازي حضوره العربي، حيث بات الغافري اسما حاضرا وبقوة في أغلب المهرجانات والفعاليات الشعرية العربية وحتى الدولية.