أصبح تعزيز ثقافة العمل والارتقاء بها بشكل متواصل، غاية تسعى لها كافة الدول الراغبة في التقدم والرقي، وتحول مفهوم غرس ثقافة العمل إلى علم مهم من أبرز العلوم التي تسعى الدول المتقدمة إلى إكسابها لمواطنيها، علم يجب أن نجتهد بإخلاص حتى يصل لكافة أفراد المجتمع العماني، حتى وإن تم ذلك عبر تدريسه في الجامعات والكليات وحتى المدارس، باعتباره الأساس الذي تقوم عليه تطور الأمم، فهذا العلم أو هذه المهارة يجب أن تكون ضمن أهم الدراسات الأكاديمية والتطبيقية التي يدرسها أبناؤنا لإتقان قيمة العمل واحترامه، عبر البدء بتعريف ماهية العمل والإنتاج والقيمة المضافة، سواء كانت من الموظف أو العامل في الوزارة أوالشركة وفي المصنع وفي أي مكان تحتاج إلى إنتاج وإضافة عمل جديد أو قيمة مادية، وبدون ذلك لا يمكن أن تتحرك عجلة الإنتاج ولا يمكن أن تتقدم المؤسسات والشركات وبالتالي لا يمكن أن تتقدم الأمم والشعوب إلى الأمام، فمتى أتقنا ثقافة العمل عرفنا قيمته وأهميته وما عدا ذلك فوزاراتنا وشركاتنا عبارة عن مؤسسات خيرية لا أكثر، الأمر الذي يفرض علينا أن نختار طريقا ونسلكه، هل هي جهات إنتاج وتنمية أم جهات خيرية، فإذا اخترنا الخيار الأول فعلينا أن نؤسس لأكاديمية ثقافة العمل في البلاد تقدم دورات في هذا العلم.
لعل البعض ما يزال يتسأل عن الأعجوبة اليابانية في مجال التقدم والنمو، فمن زار اليابان يجد أن الشعب الياباني يقدس العمل، ويعود سبب ذلك للقانون التي سنته السلطات اليابانية بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، وهو القانون الأساسي للتعليم الذي حدد أهداف التربية في احترام العمل والنمو الكامل لشخصية الفرد من أجل رفعة وتقدم الأفراد وتنمية حب الحقيقة والعدالة وتقدير قيمة الآخرين وتعميق شعور تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس والاستقلال، وكذلك تنمية الثقافة من خلال الاحترام المتبادل والتعاون واحترام الحرية الأكاديمية والحياة الواقعية، إن ذلك القانون كان الأساس للنهضة اليابانية التي غرست في الفرد حب العمل، وأثرت شخصيته بمبادئ تصنع الفارق، أما التجربة السنغافورية فقد قامت بوضع مناهج تعليمية حديثة تتماشى مع التوجهات العالمية، وتلبي حاجات سوق العمل، مقتبسة من الدول الأوروبية وأمريكا الرائدة في هذا المجال، ورسمت سياسات تربوية حققت نجاحا باهرا، بإنتاجها كفاءات عالية التكوين، مركزة في ذلك على الفرد وغرس وترسيخ قيمة العمل وثقافته، مما أوصلها للنجاحات التي وصلت إليه، وجعلها من أكثر النمور الآسيوية نجاحا.
إن إكساب ثقافة العمل لأي موظف أو طالب في كلية أو جامعة أو أي فرد في السلطنة أصبح خيارا استراتيجيا لا محيد عنه، لتأسيس مجتمع منتج وفاعل وقادر على الأداء المتميز وحريص على قيمة الوقت لجهة العمل وله أيضا ولبلده، أما تدني الأداء والتسيب في العمل والخروج منه كما يقال في أوقات الدوام، والتعذر المتكرر بالإجازات والأمراض وغيرها، فلا يمكن إيقافها بالقرارات فقط، والخصم من الرواتب، إذا لم تكن هناك قناعات كبيرة بماهية العمل وقيمته المادية للجميع بدون استثناء وترسيخ قيم عالية لماهية العمل وكيفية الإنتاج، ولكن للأسف لم نرسّخ ثقافة العمل في موظفينا وأبنائنا، لذلك انهارت هذه القيم وضاعت فلسفة العمل.
وتتضاعف أهمية ثقافة العمل بالنسبة لمؤسسات القطاع الخاص باعتبارها تسعى للربح في المقام الأول، وإذا لم يرتق الموظف بأدائه ويضيف جديدا تستفيد منه الشركة، فسوف تخسر وتنسحب من السوق. فإنشاء كلية أو أكاديمية لثقافة العمل أضحى ضرورة للولوج للمستقبل بثبات وبلورة فكر إيجابي في المجتمع يسهم في تطوير قدرات ومهارات العاملين في كل ربوع الوطن من أجل المزيد من الإنتاجية والأداء المتميز الذي يريح الجميع ويضع مجتمعنا وأبناءنا ضمن قائمة المجتمعات المنتجة والفاعلة بين الأمم والشعوب، كما أن تدريس مقرر ثقافة العمل في مناهجنا ومدارسنا وجامعاتنا وكلياتنا كمقرر إلزامي أو متطلب كلية أو جامعة، يرسّخ ثقافة عالية لدى أبنائنا ويؤسس لكوادر قادرة على فهم ماهية العمل وقيمته ويعزز الإيجابية لدى كل خريج وخريجة.
بالطبع الوصول إلى الغايات من ثقافة العمل ليست سهلة وبسيطة وإنما تحتاج إلى جهود أقدر أن أقول إنها جبّارة على كل المستويات، ولكن يجب أن نعترف بأنها هي الأداء الذي يحتاج إلى دواء، والمعضلة الأساسية التي تقف وراء عدم التوظيف، عدم الثقة في أبنائنا من الجهات والمؤسسات والاستعانة بالأجانب في كل شيء، فثقافة العمل في اعتقادي ستكون هي العلاج الناجع الذي سوف يداوي جراحنا المزمنة.
نأمل أن ندرس بل ننفّذ هذه المقترحات في مدارسنا وجامعاتنا وننشئ أكاديميات أو كليات لتدريس ثقافة العمل فهي المستقبل وإذا أجدنا ماهية ثقافة العمل وقيمها عرفنا الطريق لبناء البلاد وخدمة العباد.