فقد الزوجة.. جرح دائم في القلب

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٦/يوليو/٢٠٢١ ٠٨:١٦ ص
فقد الزوجة.. جرح دائم في القلب

بقلم :علي المطاعني

ترددت كثيرا في الكتابة عن فقد الزوجة (أم الأولاد) في حالات الوفاة وأثرها على حياة الفرد والمجتمع، ودورها في البيوت كالمصابيح تضيء جنباتها، إلا أنّ أحد الزملاء طالبني بالكتابة كتجربة يمكن للكثيرين الاستفادة منها، وأيضا من شأنها التذكير بأهميّة الأمهات والزوجات وضرورة تماسك الأسر والعائلات كأساس متين للمجتمع، ولتبقى شهادة وفاء واعتزاز يجب على الفرد أن يسجلها في حياته لتبقى شاهدة لمن فقده وتوارى وراء الثرى.. نسأل لها ولهن الرحمة والمغفرة وأن يسكنهنّ المولى عزوجل فسيح جناته.

لاشك أنّ فقد الأم والأب أو الزوجة والأخ والأخت والأقارب والأصدقاء الأعزاء يُحدِث صدمة كبيرة في حياة كل منّا، وتختلف تلك الصدمة وتأثيراتها كلما اقتربت من ذلك الفقد، ليس كعلاقة فطرية جمعت بينكما حينا من الدهر، وإنما لطبيعة تلك الشراكة وعمرها وتفاصيلها ودورها في حياتك، وتأثيراتها عليك وعلى أسرتك، وبصماتها في كل جزء من أجزاء حياتك، وقيامها بمسؤولياتها كزوجة في كل شؤونك وأولادك وأقاربك وضيوفك، وحفظها لبيتك ومالك وحلالك، وكل ما يمت لك بصلة.. فكانت تغمر الجميع بالرعاية وتكسوهم بالعناية، وسؤالها عنهم في أفراحهم وأتراحهم، وزياراتهم في الأعياد والمناسبات ووصايتها لي ولأولادها بصلة الأرحام والتواصل معهم، والتأنيب لنا جميعا في حالة الانقطاع عن هذه الخصال الحميدة، ولا أنسى يدها الممدودة للجميع بصداقات لا تعلم عنها شمالها ما أنفقته يمينها، وحتى الطيور كان لها نصيب من صداقتها، حيث كانت لا تنقطع عن الاستمرار في وضع المياه لها في ساحات البيت وشرفات النوافذ، وتوصي المزارع بتعبئة القناني للعصافير في الحديقة، وحتى العمالة التي تعمل أو تتعامل معها تبكي فقدها وفراقها وحنانها الذي لا ينقطع وعطفها على الجميع، وسؤالها عن صحتهم وعطاياها لهم لأعز ما تملك..

حقيقة لا أعرف عن أي خصال حميدة أتحدث ومن أين أبدأ إلا أنني أتذكر أنّي ولمدة 27 عاما لم أشتك منها قصورا في واجباتها وشؤون بيتها أو اتجاهي كزوج حتى في أوج مرضها، فقد كانت حريصة على أن تقوم بواجباتها وتسأل عن كل ما يمت إليّ بصلة حتى من مأكل ومشرب وملبس بسؤال أو الاتصال أو الرسائل وغيرها مما لا تسعه هذه العجالة البسيطة التي لن توفي المؤمنات مثلها حقهن مهما كتبنا، لكن دائما أشبهها بما يصفه المولى عزجل في كتابه العزيز من أوصاف المؤمنات بما تفعله وتقوم به من أعمال جليلة ليل نهار، سرا وعلانية.

إن فقد وفقدان الزوجات من الطبيعي جدا أن يؤثر في أي فرد منا، ويترك فراغا، فهي كالضوء في الغرفة المعتمة يستضيء به كل منا في حياته، وهي العمود الذي يتوسط الخيمة فتكون كالعماد للأسرة، بحلمها وتواضعها وخدمتها وقيامها بدورها بتوجيهاتها ومتابعتها لأسرة تماسكت لأكثر من ربع قرن من الزمان وتجاسرت في بناء عائلة تتكون من أربعة أبناء، منهم من تخرج من أرقى الجامعات ويعمل ومنهم ما زال في المراحل الجامعيّة يشق طريقه برعايتها وفضلها.

إنّ الحديث عنها كإنسانة لا يمكن أن يختزل خصالها الحميدة في هذه المقالة فقط، ولا يمكن أن أفيها حقها في الكتابة مهما كتبت، ومن الصعوبة أن أعدد مناقبها وأتذكر كل مواقفها، فعلاقتها مع ربها أصورها كما أسلفت، إحدى المؤمنات القانتات والعابدات اللاتي ذكرهن المولى عزوجل في كتابه العزيز.. فصلواتها بمواقيت الأذان، وتكاد تكون أضبط مواقيت الصلوات عند إقامتها للفرائض الخمس التي تتهيأ لها قبل وقتها بالاغتسال والوضوء.. لا يشغلها عن لقاء ربها وصلتها به أي شاغل مهما كان الأمر، وصلواتها تزيد عن إمامة الصلاة في المساجد، فمرات أخرج إلى المسجد وهي قائمة للصلاة وأرجع إلى البيت وهي ما زالت إمّا ساجدة أو تناجي ربها رافعة كفيها للسماء، أو ممسكة بكتيبات الأدعية تدعو منها، أو كتاب الله الذي لا يفارقها أبدا في كل وقت وحين، فقراءة القرآن عندها بالساعات قبل وبعد كل صلاة ووقت الضحى والعصر.. والمصحف لابد أن يكون له نصيب من وقتها، وتؤنب نفسها إذا كانت خارج البيت أو في مشوار شغلها عن قراءة القرآن في ذلك الوقت، بل عندما نذهب إلى خارج مسقط يكون المصحف الصغير في حقيبتها. وما إن نتحرك حتى تخرجه لتقرأ ما تيسر منه طوال الطريق.. لم يكن المصحف يفارقها إلا في لحظات النعاس أو الاستراحة.

وأمّا خصالها الحميدة التي نذكر بها فهي لا تحصى ولا تعد، فهي كانت حريصة على التواصل مع الأقارب والأهل والضعفاء، وتحثنا دوما على صلة الرحم لكل الأقارب في المناسبات والأعياد، ومتابعتنا في ذلك بالسؤال دائما وربما التأنيب في حالات القصور، أو التذكير بالزيارات لكل واحد تعرفه أو يمت إلينا بصلة، فلا يهدأ لها بال إلا بعد أن تتأكد أننا واصلنا أرحامنا وزياراتهم.

واحدة من خصال الفقيدة الحميدة هي الصدقات، سواء الثابتة والمجدولة أو المؤقتة التي تمدها بيديها الكريمتين لكل من قدم لها خدمة سواء في البيت أو بعد التسوّق بالمحلات أو أي مكان وحتى ‏الشوارع عندما ترى عمال النظافة تطلب أن أوقف السيارة لكي تمد لهم ما تيّسر لديها من نقود أو طعام أو شراب وتترحم على كل من يعمل تحت أشعة الشمس، فقد كانت رحيمة بكل شيء تمتد إليه عينيها ويدها من الإنسان إلى الحيوان حتى الشجر الذي يموت تكاد تبكيه من شدة التألم والحسرة على موته عطشا.

أمّا علاقاتها الاجتماعية فالأهل والأقارب لديها مقدسون.. صغارهم وكبارهم.. رجالهم ونساؤهم، لا يهدأ لها بال إلا برضاهم وإسعادهم وخدمتهم بكل ما تملك حتى وإن كانت كلمة طيبة.. لا تفرق بين أي منهم سواء كانوا من أهلها أو من أهل زوجها.. صنوان لديها وكل من عرفته وعرفها تكن له كل التقدير والاحترام، وتقوم بالواجب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى في كل الأوقات والظروف ولا تأنف عن تقديم أي خدمة ومساعدة تستطيع القيام بها مهما كانت، ومع ذلك تستسمحهم إذا كان هناك قصور.

لذا ليس غريبا أن تجد الكل متألم لفقدانها ويذكر محاسنها ومناقبها وعلامات الحزن والأسى بادية عليه، ولا نغفل علاقتها بالجيران تذكرنا دائما بحديث رسول الله بحق الجار على الجار، وتتقاسم معهم كل شيء يسعدهم ويفرحهم، كما تسأل عنهم وأحوالهم كسؤالها عن أهلها، وتتلطف بزياراتهم بين حين والآخر.

أمّا زميلاتها في المدارس والعمل في التربية فلهنّ مكانة خاصة في نفسها بتواصلها والسؤال عنهم ما إن تحس بغيابهم، ولا تغيب عن لسانها عبارات الشكر والامتنان وتغمرهم بمشاعرها الطيبة، وتذكرنا دائمًا بالأصدقاء والزملاء وتواصلنا معهم كما توصينا بعدم الانقطاع عنهم.

فعلى صعيدها كزوجة، فلا أكاد أن أشكو تقصيرها يومًا ما في كل شيء سواء طلبته منها أو من تلقاء نفسها.. تقوم به بالتمام والكمال بدون كلل أو ملل، فلا تتضجر منه، فكان صوتها لا يسمع، حافظة للأسرار، تصبر على السراء والضراء، ويكفي بأن أدلل بأنّه طوال 27 عاما من الحياة الزوجية لم يسمع صوتنا كزوجين خارج بيت الزوجية، وكانت واقعية وتزن الأمور بميزان الحق والعدل ولا تجامل في أشياء لا تعجبها، وتبدي رأيها بكل تجرد، وتنصح نصيحة تسرها في قلبها لمن تحب برفق الأطفال ورحمة الوالدين ومعزة الأصدقاء.

وبحكم علاقاتي وطبيعتي الاجتماعية، فمن الطبيعي أن تكون لتلك العلاقات ضريبة فكانت هي من يتحمّلها في القيام بالواجب في كل الأوقات والظروف. فأداء واجب الضيافة بكل ما نشتهي من المأكل والمشرب لا يحتاج مراجعتها فيه أو تذكيرها به تجدها متحاملة على نفسها مرات كثيرة، وفوق طاقتها أن تعمل ما نشتهي بدون تذمر أو كلل. وتنتظر إلى أن ننتهي لربما نحتاج شيئا آخر أو إضافة تقدر على عملها.

أما في تربية أبنائها فهي مدرسة وكما يقال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق، فتعطي تربية أبنائها جل وقتها ورحيق عطفها وحنانها وأمومتها كأم، وحرصها على التنشئة من الولادة إلى أن يشب ويترعرع.. تواصل دورها بتوجيهه وتعليمه وتذكيره بكل الصفات الحسنة التي يجب أن يعرفها وتغرس فيهم القيم الحميدة والآداب التي يجب أن يتحلى بها كل واحد منهم مع الآخرين، بل علاقتها بأبنائها كصديقة أكثر من أم لا ترفع صوتها عليهم ولا يدها بالضرب أو الزجر، وتتلمس العذر لهم حتى في التقصير أحيانا، وتمنعني في الكثير من المواقف بعذرهم وإعطائهم فرصة في التقصير بحياتهم كأبناء وربما تمنحهم تجربة الخطأ ثم التصويب بعدا ومعرفة جديدة في حياتهم‏.

إنّ فقد مثل هذه الزوجة كبير وعظيم ويظل الجرح غائر في القلوب لكل لحظة تذكر فيها محاسن ومناقب هكذا زوجات لاسيما أنّه من الصعوبة تعويضهم في حياة كل فرد منا، والأمهات والزوجات والأخوات والقريبات مدارس يعددن شعوبا طيبة الأعراق متى كانت العلاقة حميمة ومتبادلة والتقدير بين الأزواج على كف متساوية، وارتأت المرأة بأنّ الزوج يقوم بواجباته وينهض بمسؤولياته فهي في المقابل تقوم بدورها تلقائيا أو أكثر.

فالمرأة أكثر عطفا وأكثر قربا من الزوج متى كان الزوج قريبا منها، يشاطرها كل اهتماماته وشؤونه، ويفتح قلبه لها، فيجدها من يخفف عنه أحزانه ويواسي آلامه.

لا يمكن نسيان الرحلة مع شريكة الحياة وتجسيد ذكريات الشراكة منذ بدء الزواج إلى اللحظات الأخيرة في حياتها، إلا أن أحول المنزل إلى معرض يجسد تلك اللحظات لتبقى متوقدة في الذاكرة إلى الأبد.. عصية على النسيان، ولتبقى حاضرة لأبنائنا في كل ركن من المنزل كما هي في قلوبهم، كشمعة تضيء لهم الطريق ويدعون لها في كل حين بالمغفرة والرحمة، وليأخذوا من شموخها زادًا لهم في حياتهم، ومن حنانها وعطفها على الغير نموذجا في تعاملاتهم مع الآخرين، ومن علاقتها بزوجها وبهم اقتداءً يسيروا عليه إلى بر الأمان لبناء أسر متماسكة في مواجهة تحديات الحياة وعاديات الزمن.