التراجيديا السياسية لتشيرنوبيل

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٥/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٥٠ ص
التراجيديا السياسية لتشيرنوبيل

ناتالي نوجايريد

في 26 أبريل عام 1986 انفجر المفاعل رقم 4 من محطة تشيرنوبيل النووية، وراح يقذف كميات هائلة من المواد المشعة في الهواء، وربما كان ذلك من أهم الأحداث التي شهدها القرن العشرين. وكان لانفجار تشيرنوبيل الذي وقع في مثل هذا الشهر قبل 30 عاما دورا رئيسيا في انهيار الاتحاد السوفيتي، بعد أن سحق ما تبقى من مصداقية للسلطة التي كانت تزعم تطببيقها معايير الأمان التكنولوجي. وبالنسبة لتلك البلدان الأكثر تضررا، لم يكن الطريق إلى الديمقراطية المستقرة أمرا سهلا، بل لم يكن حتى مضمونا للبعض منها. وكانت الدول الأكثر تضررا من الكارثة هي أوكرانيا وبيلاروسيا. وربما يعتقد البعض أن الاضطرابات السياسية في أوكرانيا اليوم هي نتاج الأزمات الأخيرة وحسب، غير أن تلك نظرة ضيقة. وقد لا تمثل الأخبار عن بيلاروسيا اهتماما كبيرا، ربما باستثناء مناقشة العقوبات ضد نظام الرئيس الكسندر لوكاشينكو، بيد أن فهم متاعب هذه البلدان يتطلب الذهاب إلى أبعد من ذلك في الماضي.
وعندما وقعت كارثة تشيرنوبيل كان لم يمض وقت طويل على اطلاق الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف لسياسة (الجلاسنوست) أو الانفتاح، والتي كانت بمثابة قوة دافعة نحو التغيير لما كشفت عنه من أكاذيب، بل كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بعد قائمة طويلة من الأعمال الوحشية وحمامات الدم الأسوأ التي شهدتها أوروبا في القرن الـ 20. ويقدر على سبيل المثال أن روسيا قد فقدت ثلث سكانها في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن التعافي من الأثر التراكمي لهذه المحن أمرا بسيطا.
والواقع أن الكثير من عواقب تشيرنوبيل لم تتكشف كافة أبعادها حتى اليوم، وبعد ثلاثة عقود، كيف يمكن للمرء حتى أن يصف كيف هي الحياة في منطقة يكتنفها عدو مشع خفي، وكيف يمكن وصف حدث بهذا الحجم من الضخامة عندما غطت السحب الكثيفة السماء وبدا أن نهاية العالم تتكشف؟
في التسعينيات سافرت الى منطقة تشرنوبيل في محاولة لفهم هذا إرث الكارثة، ومن بين الأشياء التي لا يمكن غض الطرف عنها تلك الصدمة السياسية الدائمة التي تمخض عنها حادث تشيرنوبيل وكل ما أدت إليه.
ومثل السيزيوم المشع الذي تسرب إلى الأرض واستمر في نشر السموم في المنطقة بأسرها، كانت أيضا التركة التي خلفها الاتحاد السوفيتي وراءه والتي قد يكون من الصعب التخلص منها الى الأبد. وتماما كما هرعت السلطات السوفيتية لإخفاء حجم الحادث، فإننا نميل إلى التقليل من شأن المهمة التي واجهها شعبا أوكرانيا وبيلاروسيا في محاولة تفكيك هياكل الحقبة السوفييتية.
وهذا أمر مهم لجميع الأوروبيين، لأن هاتين الدولتين تقعان في قلب القارة، وفي مركز التوترات الحالية مع روسيا. والمصير الذي ينتظر التطلعات الديمقراطية للشعبين سيكون له تأثير كبير على توجه أوروبا في السنوات القادمة.
ومؤخرا نشر المعارض البيلاروسي اندريه سانيكوف، الذي يوجد في المنفى الآن، مذكراته وقصة سجنه في ظل دكتاتورية لوكاشينكو، الذي كان رئيسا منذ عام 1994. والقليل هم الذين يعرفون أن 70٪ من الغبار الذري المتساقط من انفجار عام 1986 سقط على أراضي بيلاروسيا كما يذكر سانيكوف.
كما أن الكاتبة سفيتلانا أليكسيفيتش الحائزة على جائزة نوبل للأدب 2015، والتي تحظر أعمالها في بلدها بيلاروسيا كانت قد كتبت ببلاغة عن الدمار النفسي الذي خلفه تشيرنوبيل، ونقلت عن أحد الناجين: بعد الكارثة كان الجميع يقولون " سنموت سنموت، وعندما يأتي عام 2000 لن يكون هناك أحياء في بيلاروسيا"
وبعبارة سيفتلانا " مع أن تشيرنوبيل حادث، بمعنى أن أحدا لم يتعمد فعله، إلا أنه أيضا كان نتاجا متعمدا لثقافة المحسوبية واللامبالاة المستحكمة تجاه السكان بوجه عام. وهذه المحسوبية واللامبالاة هي نفسها التي ظلت موجودة في العديد من المجتمعات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبطبيعة الحال، كان لكل من أوكرانيا وبيلاروسيا مساران مختلفان، فأوكرانيا اليوم دولة ديمقراطية، رغما عن الحرب في المنطقة الشرقية منها، في حين أن بيلاروسيا تعاني الاستبداد، حيث يتم سحق أي شكل من أشكال المعارضة. ولكن كما يذكرنا سانيكوف، فإنه من الخطأ أن نعتقد أن بيلاروسيا ستظل ديكتاتورية الى الأبد، فمجتمعها المدني قد يكون أصغر من أوكرانيا، ولكن نشطاءها يقومون بمحاولات مرارا وتكرارا متطلعين الى انتفاضات ديمقراطية، وربما سيواصلون القيام بذلك.
والفرق هو أن آخر ثورة شهدها الشارع البيلاروسي في ديسمبر 2010، تعرضت لقمع عنيف وبشكل دقيق من قبل شرطة لوكاشينكو، وفي وقت لاحق حكم على سانيكوف، وهو مرشح رئاسي سابق، بالسجن لمدة خمس سنوات في معسكر عمل، وهذا يتناقض بوضوح مع نجاح الثورة الديمقراطية في أوكرانيا في 2013 – 2014 والتي أدت إلى الإطاحة بالرئيس، والتي جاء الرد الروسي عليها بشن الحرب.
وبالنسبة لمعظم الغرب فهم يتذكرون تشيرنوبيل أنها كانت كابوس تكنولوجي يشبه ما يحدث في أفلام الرعب، أما بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في المنطقة فقد حملت في طياتها عواقب مادية رهيبة، وكذا تغييرات سياسية ضخمة ما يزال نجاحها غير مؤكد. والواقعية تقتضي أن يحصل الأوكرانيون والبيلاروس المتطلعون الى الديمقراطية على كل الدعم الأوروبي الذي يستحقونه.

كاتبة عمود رأي في صحيفة الجارديان