محمد بن رامس الرواس
الدبلوماسية الثقافية تعد جزءاً من العلاقات الدبلوماسية، لكنها تتناول في مضمونها تأثير الأدب والفن والموسيقى والرياضة والإعلام في العلاقات بين الدول والشعوب والحضارات ، وهناك وجه آخر للاختلاف هو أنها النوع الوحيد من الدبلوماسية القائم على العلاقة بين الأفراد والمؤسسات ولا تنحصر فقط على الحكومات وبعضها البعض .
برغم كون الدبلوماسية الثقافية موروث حضاري قديم مارستها المجتمعات البشرية منذ الزمن الغابر للتبادل الثقافي بين الشعوب والأمم بطرق أكثر بساطة من اليوم كونها مرتبطة بالحياة الإنسانية عند التقاء الافراد والمجتمعات والشعوب، الا أن الدبلوماسية الثقافية لم تاخذ منحى كونها علم قائم بحد ذاته له برامجه ومنظريه الا بعد الحرب العالمية الثانية ، وبالتحديد أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا في مطلع اربعينيات وخمسينيات القرن الفائت ، حيث اصبحت الدبلوماسية الثقافية اسلوب لإعادة توجيه المؤثرات الثقافية لصالح مستخدمها بشكل أو بآخر ، وارتبطت حينها بوضع استراتيجيات وخطط تكتيكية ومعلوماتية يمارس من خلالها العمل الثقافي ليصبح قوة ناعمة يمكن استثمارها ، واصبحت مادة علمية تدرس بالجامعات الكبرى بالغرب ، ومع مرور الزمن وتطور الاجيال اضحت الدبلوماسية الثقافية اليوم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي احدى المكونات الهامة للثقافة المجتمعية المعاصرة لانها تلعب دور حيوي في حياتنا فاصبح للفرد قوة يمكن من خلالها ان يواجه المؤسسات العالمية الكبرى من خلال استخدامه (للسوشل ميديا) التي اوجدت نمط جديد من التواصل عبر الدبلوماسية العامة فربطت تواصل الافراد بالموسسات المختلفة فظهر الدبلوماسية الرقمية كمصطلح جديد للمساعدة في تحقيق الأهداف من خلال الانترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة فاثرث بشكل مباشر على زيادة الدبلوماسية الثقافية المعاصرة كون التواصل الاجتماعي اصبح فيه العالم مشتركاً بالصوت، والموسيقى ، والصورة ،وعبر الترجمة والتواصل المباشر.
الدبلوماسية الثقافية في توصيفنا لها يمكننا ان نعرفها ونقول انها تأثير الأدب والفن والموسيقى واللغة وغيرها ، وفي جزئية معينة من العلاقات الدبلوماسية عامة بين الشعوب يطلق مصطلح الدبلوماسية الثقافية ، حيث انها تعزز التفاهم الثقافي المتبادل بين الشعوب والدول ، ويمكنها ان تلعب ادوار شتى في تبادل الأفكار ، والرؤى ، والمعلومات من خلال الكتابة والترجمة ، والسياحة والقانون ، والاعلام ، والسينما ، والاوبرا ، والاكلات المختلفة ، والأزياء وغيرها الكثير فتخلق التفاهم والحوار بغرض إيجاد جسور مشتركة للتواصل والعيش المشترك بسلام بين بني البشر ، كما انها تتناول أساسيات الحياة ومكوناتها لذلك يمكن اعتبارها عامل ملهم يصنع الفارق بين الشعوب والحضارات وطريق لأزدهار التقاليد المجتمعية وتسويق للهوية والموروث والعادات إلى شعوب العالم كافة متى ما تم نقله بالطريقة الصحيحة.
لذا كان التفاعل المشترك هو الجزء الهام في الدبلوماسية الثقافية لان أساسها المهارات التي نكتسبها من ثقافة مجتمعاتنا وديننا الحنيف ، ونصدرها كهوية لنا للآخر،وجميعنا معنيين بالدبلوماسية الثقافية سواء افراد، او مجتمعات ،أو مؤسسات حكومية ، لان الدبلوماسية الثقافية تمثل الحكمة والرؤية والتواصل والارتباط ، وتسويقنا لها يوازي حرصنا على اذكاء ونشر روح هويتنا الوطنية للعالم اجمع.
التجربة العُمانية في نشر الدبلوماسية الثقافية كانت ولاتزال عبر العصور التاريخية نموذجاً يقتدى به لما قامت به عبر الزمن ، وكان له الآثر الأكبر في نشر الثقافة والقيم والسلام والتواصل بين الشعوب وذلك من خلال الفكر النير لسلاطين عُمان وتجارها المهرة ،وربابنتها الحاقون الذين كانوا يطيلون القراءة في ثقافة الشعوب قبل ان ينزلوا بها من اجل فهم ثقافتهم وطرق حياتهم ، حيث كانت الحضارة العُمانية قيمة فعالة عبر التاريخ في غرس القيم السمحة ونشر سياسات السلام حيثما استقر العُمانيون ، ومن خلال تعاملهم ، لانهم دوماً يجعلون من الاخلاق أسس التعامل مع الآخر ولقد نجحوا في تسويق ثقافتهم عبر دبلوماسية أممية ضلت راسخة لقرون من الزمن ، ولنا في أبو عبيدة العُماني الذي وصل الي كانتون بالصين عام 750م بجانب الشخصية العُمانية الآخرى الشيخ عبدالله الصحاري وغيرهم والذين من خلال تواجدهم هناك نالوا بشريف تعاملهم المنزلة السامية في التعايش مع الآخريين حين قدموا ثقافتهم العُمانية عبر دبلوماسية الاخلاق ، وقس على ذلك التواجد العُماني بافريقيا ، ونقلهم لشجرة القرنفل لزنجبار كرمزية للنفع ، ووجود قصر المتوني وبيت العجائب كمثال للتاثير الحضاري مع عدم المساس بثقافات الشعوب والعيش المشترك معهم بكل ود ، والشواهد كثيرة على ذلك ، ولقد كان لتواصل سلاطين عُمان مع ملوك ورؤساء العالم سابقاً ولاحقاً عبر علاقات صداقة ودية جسدوا من خلالها الدبلوماسية الثقافية في اروع صورها فنالوا الخلود في الذكر الحسن .
ولقد كان للدبلوماسية الثقافية العُمانية خلال الخمسون عاماً الفائته أدوار هامة في الدعوة الي نشر نهج التقارب والحوار والسلام والتواصل بين مختلف الشعوب من خلال ما اختطه وسعى اليه السلطان قابوس – طيب الله ثراه – فأسس كراسي السلطان قابوس بالعديد من الجامعات العالمية العريقة المختلفة التي كانت تهدف الي نشر المعرفة الفكرية وتوثيق عرى التواصل والتعاون المعرفى والاستفادة من الدبلوماسية الثقافية كقوة ناعمة يمكن من خلالها نشر قيم السلام والثقافة والمعرفة ، ولكون اللغة هي من أفضل وسائل تاثيرات القوى الناعمة والدبلوماسية الثقافية بالعالم حيث انها عملية تفاعلية تنقل عبرها الموروثات الثقافية للأمم والهوية ، كانت ولا تزال كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها منارة ثقافية عالمية لبرامجها بالتعاون مع مركز السلطان قابوس الثقافي بواشطن ، وجمعيات الصداقة من خلال اقامتها المحاضرات ، ومشاغل الخط العربي ، فوضعت البرامج لزيارات الملتحقين ببرامج الكلية فاستقبلت طلابها من مختلف دول العالم وبمختلف ثقافاتهم اللغوية فهي صرح ومعلم بارزا من معالم النشاط الثقافي والعلمي في ولاية منح ، ولقد كان ولا يزال لأقامة السلطنة لجمعيات صداقة دولية انشئت بدأ منذ العام 1991م مع العديد من دول العالم المختلفة دوراً بارزاً لوضع سبل للتبادل من أجل أيجاد قواسم حوارية ثقافية واقتصادية وسياسية مشركة بين عمُان ودول العالم بهدف تعزيز التقارب بين السلطنة والشعوب الآخرى ، ولقد كان للأيام والاسابيع الثقافية المتواصلة عبر برامج مستمرة زيارات عديد لدول العالم منذ سبعينيات القرن الفائت ، وبمشاركة مع الفرق الموسيقية السلطانية والفرق الشعبية ، وبحضور الشعراء ،والكتاب ، والأدباء وبجانب نشر الاصدارات الثقافية العُمانية المختلفة ، فكانت تعزف خلال المشاركات الاوركسترا السيمفونية السلطانية الحانها الشجية حيثما كانت المشاركات سواء بالشرق ،أو بالغرب وتطلق اعذب الاصوات الموسيقية لتسمع العالم الموسيقي الرائعة ، ولقد كانت ولا تزال رسالة السلام التي تحملها صواري السفينة شباب عُمان الولى والثانية وهي تطوف العالم وتشارك فى المهرجانات والاحتفالات التى تقام فى العديد من الدول المختلفة انما هي استكمالاً لنهج الدبلوماسية الثقافية العُمانية وضمن اهتمامات نشر رسائل الود والتفاهم والاخاء والصداقة للعالم من أجل نقل الموروثات العُمانية العريقة معلنة عن افاق التعاون والتقارب بين الشعوب عبر محطاتها المختلفة ، ولقد كان ولا يزال لمعرض "رسالة الإسلام" والذي تم إطلاقه من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالسلطنة عام 2010م وتم زيارة أكثر من ستة وثلاثين دولة وأكثر من مائة وعشرين مدينة حول العالم حتى الآن ، ويحمل عنوان "التسامح والتفاهم والتعايش رسالة الإسلام في سلطنة عُمان" ويهدف إلى نشر قيم التسامح بين شعوب العالم ، ويكون مكسباً ثقافياً ، حيث تم التنسيق بشأنه مع عدد من المنظمات العالمية وأهمها منظمة اليونسكو ، والعديد من المركز الدينية المهتمة بنشر القيم المعتدلة والدعوة إلى السلم والعيش المشترك بين الناس والثقافات والأديان ، ولقد مضى شباب عُمان الابرار على مدى 50 عاماً على نهج مسيرة الدبلوماسية الثقافية فحققوا بمثابرتهم واجتهادهم الجوائز والانجازات العالمية والاقليمية في كافة المناحي الثقافية والرياضية والعلمية لانهم يرون في انفسهم سفراء دائمون للسلطنة حاملين الهوية العُمانية بكل أمانة واخلاص .
تقف دار الأوبرا السلطانية بمسقط العامرة شامخة بمعمارها العُماني المعاصر المميز منذ العام 2011م لتوكد سمو أهداف بنائها لتصبح مركز اشعاع عالمي لألتقاء ثقافات الشعوب والأمم وتجعل من استضافتها للفعاليات المختلفة مثل حفلات الأوبرا الموسيقية والمسرحية العالمية ، إضافة الي الملتقيات الثقافية والفنية المختلفة ، فقدمت أجمل الفقرات والبرامج .
قبل رحيله بعام اهدى السلطان قابوس -طيب الله ثراه- مشروع المؤتلف الأنساني للعالم بهدف الدعوة لوجود سلام عالمي ينبذ ويدرء النزاعات عن الشعوب ويعمل على أيجاد الحوار كحل أمثل للخلافات ، بجانب دعوته لترسيخ ثقافة السلام والوسطية والأعتدال ، ونبذ العنف والطائفية وسيادة الأخلاق التى استمد نهجها من دينه الحنيف ورسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام وثقافة أمته العُمانية العريقة ، ولقد جاء "مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الأنساني" بمفرداته السامية العقل والعدل والأخلاق ، من أجل تحقيق التوازن فى العلاقات الأنسانية التي تشابها اليوم الكثير من المعضلات وعدم التفاهم وزيادة بؤر التناقضات والازمات بين الشعوب والدول .
ختاماً ، وبناء على ما تم التطرق اليه سابقاً في المقال يمكن العمل والتخطيط لجعل الدبلوماسية الثقافية بالسلطنة ذات جدوى اقتصادية ولها نتائج ملموسة ، ويمكن استثمارها لتحقق نتائج إيجابية سواء بالرياضة ، أوالسياحة ،أو عبر استضافة المؤتمرات الدولية وغيرها من الفعاليات العالمية المختلفة ، حيث ان القوة الناعمة في الدبلوماسية العُمانية عامة، وعلاقتها مع دول العالم اليوم تتيح لها استثمار ذلك وتحقق لها أهداف في مجالات عديدة ومثمرة بناء على أرث عظيم في بناء دبلوماسية ثقافية عريقة تمتد لألاف السنين .