العمانية - الشبيبة
تحتضن ولاية العوابي بمحافظة جنوب الباطنة بحكم موقعها بين الداخل والمناطق الساحلية كنوزًا ثقافية من الرسومات والكتابات الصخرية التي تعود إلى أزمنة بعيدة، ويعد قسم منها شديد الأهمية لما يوثقه من تواريخ لأحداث مهمة حصلت، وهذه الرسومات والكتابات الصخرية بمنزلة مخزون ثقافي ومصدر من مصادر التاريخ العماني القديم.
ويقول الباحث المهندس حارث بن سيف الخروصي لوكالة الأنباء العُمانية: "يمكننا تحديد تاريخ الرسومات والكتابات الصخرية في ولاية العوابي ببداية الوجود الإنساني حيث سطر الإنسان القديم رسومات وكتابات تدل على حياته ومعتقداته، كما يمكننا تحديد تاريخ بعض تلك الرسومات بثلاثين ألف عام ويمكن الاستدلال على هذا التاريخ بمقارنة نمط الرسومات بأنماط أخرى مشابهة في العالم والجزيرة العربية خصوصا".
وأضاف أن فترة التدوينات الصخرية بدأت بالازدياد مع نهاية العصر الجليدي الأخير قبل (11000) عام حيث ساد مناخ ملائم لازدهار الحياة وكثرة الثمار والطرائد وبالتالي ازدياد أعداد البشر ونشاطهم وسادت موجات ثقافية إنسانية تمثلت في التفكير في الكون والعبادة وبداية نشأة المستوطنات البشرية وتحول الإنسان إلى الزراعة والاستقرار ويتضح ذلك من خلال الكتابات المنتشرة ورسومات الكائنات المقدسة قديما مثل الوعل والثور والشمس.
وسطر الإنسان لوحات تمثل قصصا وبطولات مثل مشاهد معارك وأيضا ملاحظة صور لاستخدام الإنسان العماني قبل التاريخ لأداة السبطانة الحربية في الصيد والحرب وهي عبارة عن أنبوب من الخشب يوضع بداخله مقذوف ويطلق عن طريق النفخ وما تزال هذه الأداة مستعملة في عدد من المناطق النائية في العالم مثل غابات الأمازون وأفريقيا وسومطرة وأستراليا.
وأوضح أن الإنسان بعد أن ابتكر الحرف (وهو رمز يمثل صوتا معينا)، بدأ بترجمة مشاعره وأفكاره على الصخور مثل الإنسان الحديث الذي يسطر أفكاره في جريدة أو وسائل تواصل حديثة، ومع وصول الحرف العربي الحالي إلى عُمان والدين الحنيف ظهرت نقلة نوعية وكمية في الكتابات الصخرية.
وأشار إلى أن عوائل مختصة ظهرت في التدوين الصخري وتعددت المواضيع فعلى سبيل المثال نجد، شاذان بن مالك يكتب بعض الجمل في عام (399) هجري في قرية ستال ويكتب محمد بن عبدالله بن محمد السعالي عام (302) هجري بعض الجمل في قرية الهجير وتعددت المواضيع التي درج عليها سكان وادي بني خروص في كتابتها فمنها موضوعات ثقافية كأبيات الشعر والحكم مثل ما كتبه بلعرب بن بلعرب بن محمد في القرن العاشر الهجري وأقتبس الكثير من أشعار المتنبي وكذلك ما كتبه ابنه محمد بن بلعرب بن محمد في القرن ذاته، ونجد كذلك موضوعات اجتماعية وسياسية؛ ولعل أهم الكتابات السياسية ما كُتب في كهف الجلية في قرية الهجير عن عقد الإمامة للإمام الخليل بن شاذان في القرن الخامس الهجري، ويُذكر بأنه قد عُثر على مسكوكات في ولاية بهلا تعود للإمام المذكور، وكذلك توجد مواضيع متعلقة بالطقس مثل ما خطه الإمام مانع بن علي بن محمد بن إسماعيل في قرية ستال بتاريخ الجمعة 29 شعبان سنة (970) هجري؛ فقد أرّخ فيضانًا عارمًا أسفر عن تدمير خمسين منزلا واقتلاع خمسمائة نخلة في قرية ستال ويذكر أن الشاعر ابن شوال الحسيني الكيذاوي أرّخ الحدث ذاته في أحد قصائده، كما يذكر الكاتب بأن مانع بن علي بن محمد بن إسماعيل عُقدت له الإمامة في نزوى عام (982) هجري.
وقال بأنه توجد - في وادي بني خروص - عدة كتابات تؤرّخ لأحداث اقتصادية مهمة مثل استصلاح عدد من الأراضي الزراعية في قرية العلياء في عهد الإمامة اليعربية وكذلك من الكتابات المهمة ما نقشه الشيخ محمد بن خميس بن مبارك الخروصي وهو الأخ الأكبر للشيخ جاعد بن خميس الخروصي حيث أرخ لحدوث آفة المتق في النخيل الذي تسببه حشرة دوباس النخيل وأنه باع محصول التمر في تلك السنة بألف تومان (عملة) وهو دلالة على حركة النشاط الاقتصادي في تلك الفترة، وقد كانت للشيخ محمد بن خميس بن مبارك الخروصي نقوشات كثيرة على الصخور وأبرزها ما خطه عن العوابي - أي الضواحي والمفرد عابية وتعني ضاحية وهي الأرض غير المستغلة زراعيا مع قابليتها للزراعة - من خبر إنشاء الفلج وإعادة تخطيط تلك العوابي وتنفيذها حيث أشار أن المشروع العملاق بدأ بحلم راوده في المنام وعزم على تحقيقه وما يزال الفلج قائما وهو الأكبر في الولاية، ومن أشهر الكتاب أيضا سعيد بن شنون العوفي الذي توجد له عشرات الكتابات الصخرية حيث أرخ لهجرات خرجت من وادي بني خروص إلى أفريقيا والهند بسبب الجفاف الذي أصاب المنطقة، وأرخ كذلك لمسير السلطان سعيد بن سلطان بن أحمد - رحمه الله - مع ولده ثويني إلى بندر عباس بعد وفاة واليه سيف بن نبهان بن سيف المعولي وهذا يدل على متابعة الناس للأحداث السياسية والعسكرية في تلك المرحلة ومن الحوادث الاجتماعية التي ذكرها سعيد بن شنون العوفي وفاة زوجته وحزنه على فراقها وهو آخر ما خطه على الصخور.
وقال الباحث المهندس حارث بن سيف الخروصي في ختام حديثه لوكالة الأنباء العمانية: إن المسير الإنساني لا بد أن يؤرخ وأولئك الذين أرخو ذلك المسير الإنساني عبر الزمن رسما وكتابة ليسوا إلا مؤرخين حقيقيين فلولاهم ما عرفنا الماضي العريق وصدق الله العظيم القائل في كتابه: (ن والقلم وما يسطرون) فالإرث الإنساني مصدر فخر للأجيال الصاعدة ومكنون ثقافي إنساني يجب استغلاله الاستغلال الأمثل من خلال الاستثمار الثقافي والسياحي مع تنامي الاهتمام العالمي بهذا الإرث المنقوش عبر التاريخ الإنساني.