ضع أمر أخيك علي أحسنه

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٣٥ ص
ضع أمر أخيك علي أحسنه

احمد المرشد

ربما نخرج بعيدا عن السياسة، ولكن من المؤكد أننا سنعود لها لاحقا، فهي – أي السياسة – لا تغيب عنا حتي وإن ابتعدنا نحن، فهي تلاحقنا علي مدار الساعة، وربما كان الهروب منها نعمة والتفكير في غيرها ميزة، علي الأقل تقل الخلافات، فمعلوم أن التحليل السياسي للوقائع يختلف من إنسان لآخر خصوصا في الأمور الخلافية، فحتي داخل الأسرة الواحدة، تجد كبيرها مع قضية مثارة علي الرأي العام، في حين لا يؤيده شخص آخر بالعائلة ويري عكسه تماما، الأمر الذي يشعل الخلافات.

ولهذا، نبتعد اليوم عن السياسة ومشكلاتها وخلافاتها، ولعلي اعترف بأنني أيضا أود إثارة قضية مجتمعية وهي "حسن الظن بالله وبالإنسان"، وكثيرا ما يرسل لي الأصدقاء حكايات متنوعة ما بين اجتماعية وإنسانية ودينية علي موقعي الفيس بوك والواتس آب، ومن هذه الحكايات التي وصلتني مؤخرا، أن شخصا لم يكن بيته يخلو من زواره وأصدقائه وأعضاء أسرته القريبين والبعيدين، كان هذا وقت أن كان الرجل غنيا وملء السمع والبصر، ولم يكن بيته يفرغ أبدا من زائره، الي أن دارت به الأيام وصار لا يملك قوت يومه .

ولاحظت زوجته التي أغضبها من قبل ازدحام منزلها ليل نهار لدرجة أن الخدم لم يلبثوا المكوث فيه سوي أشهر معدودات حتي يتركون عملهم من ضخامة أعبائهم وارهاقهم، فقالت لزوجها يوما ما لا لتعاتبه وإنما لتصدق علي صدق ما حذرته منه مرارا من أن زواره لم يكونوا يأتون إليه سوي طمعا في كرمه وجاهه ومنصبه. فالزوجة كانت علي يقين بأن كل هؤلاء لم يودوا زوجها لشخصه، كما أسلفنا، ولكن تكلفا ومداهنة لأجل نقوده ، ولم يعد أحد يطرق عليهم باب الدار لفقرهم.

حكاية هذا الرجل وزوجته تنطبق تماما علي ﺃﺣــﺪ ﺍﻟــﺮﺟــﺎﻝ في سالف الزمان وﻛــﺎﻥ ﻣــﻦ أجود ﺍﻟــﻌـﺮﺏ ﻓــﻲ ﺯﻣـﺎﻧـﻪ ، ﻓـﻘـﺎﻟﺖ له ﺍمرﺃﺗﻪ يوما :ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻗـﻮﻣﺎ ﺃشد ﻟـﺆما ﻣــﻦ ﺇﺧﻮﺍﻧﻚ ﻭ ﺃﺻﺤﺎﺑﻚ !!ﻗـﺎﻝ :ﻭ ﻟﻢ ﺫﻟﻚ ؟! ﻗﺎﻟﺖ :ﺃﺭﺍﻫـﻢ ﺇﺫﺍ اغتنيت ﻟـﺰِموﻙ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻓـﺘﻘﺮﺕ ﺗﺮﻛﻮﻙ ..ﻓـقـﺎﻝ ﻟﻬﺎ ﻫـﺬﺍ والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا علي إكرامهم ويتركوننا إذا عجزنا عن القيام بواجبهم.

حكمة هذا الرجل الكريم المعطاء جعلته يري قبيح فعلهم حسنا وظاهر غدرهم وفاء، بما يدل علي سلامة القلب والعقل والروح، وكل هذا غنيمة لصاحبها في حياته ومماته ودنيا وآخرته، وهذا بسبب أنه أحسن الظن بالآخرين.

هذا الرجل الذي نتحدث عنه تجنب سوء الظن بالله والعبد، لأن سوء الظن بالله والعبد من صفات الإنسان الجبان ضعيف النفس الذي تذعن نفسه لكل فكر فاسد يدخل في وهمه ويتبعه، وقد يترتب عليه الخوف والغم وهو من المهلكات العظيمة، وقد قال الله سبحانه:" يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثمٌ "[7]. ونقل الرواة الثقاة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قوله :" ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ".

الحكايات الدالة علي حسن الظن بالله والعبد كثيرة ومتنوعة، ولعلي أستزيد بالرواية التالية لما فيها من معان صادقة عن حسن الظن والإيمان. يحكى: أن السلطان العثماني بايزيد رأى هاتفا (داعيا) في المنام فانتفض من مرقده، وأمر أمين سره أن يجهز بعض النفر كي يذهبوا جميعا الي مكان ما، دون أن يسأله عن الأسباب.. ولكن أعلمه أن هاتفا جاءه في المنام.. قصد السلطان وصاحبه والحاشية متنكرين المكان المقصود على حسب ما جاء في المنام ولدى وصولهم إليه وجدوا أنه حي سكني من ذوي الحال الميسور، ورأوا لفيفا من الناس مجتمعين حول شخص ميت للتو.فسألهم السلطان: ما... الأمر؟ فأجابوه أن هذا شخص يعمل في حيهم منذ مدة طويلة وكان مثال الجد والتفاني في عمله كنعّال لحوافر الخيل وكان يحصل الأجر الوفير من عمله.فسألهم: لماذا لا تدفنوه إذا؟ فقالوا: إننا لا نعلم أين يسكن و لا من أين يأتي كل يوم، ثم إنه رغم جده في عمله كان منبوذا من كل أهل الحي لأنه كان بعد انتهاء عمله يشاهد حاملا زجاجات الخمر ومصاحبا لبنات الهوى.

لذلك حين توفي أقسمنا أن نتركه هكذا دون دفن. فأشار عليهم السلطان أن يخلصهم من جثته، فوافقوا وحمل النفر الجثة وساروا بها، فهمس السلطان في أذن أمين سره أن يدفنه في باحة مسجده (المشهور حتى يومنا هذا – في اسطنبول) حسب ما جاءه في الحلم، فحاول أمين السر أن يعترض مفسرا له: يا سيدي السلطان.. بعد العمر الطويل ستدفن في ذلك المكان و لا يصح أبدا أن يكون قبرك مجاورا لقبر ميت كهذا، فقطع عليه الطريق وأمره أن ينفذ دونما اعتراض، ودفن الرجل في مسجد بيازيد.

بقي السلطان حائرا في أمره وقض عليه مضجعه، وهو يريد أن يعرف حقيقة أمر ذلك الرجل الميت وحاول مرارا أن يقصد ذلك الحي الذي التقطه منه عسى أن يعثر على بصيص أمل يقربه من الحقيقة..إلى أن عثر بعد فترة على عجوز هرم على عكازين كان يعرف المتوفى لأن النعال ساعده ذات يوم ماطر بارد للوصول إلى بيته و أسر إليه أنه يسكن في مكان قريب من حيه فدله عليه، وكان الحي في الطرف البعيد من اسطنبول، فقصد السلطان المكان وهو متنكر أيضا وسأل أهل الحي عن بيت نعال الخيول فدلوه عليه؛ طرق الباب ففتحت له امرأة وقالت له بعد أن ألقى السلام: لقد توفي زوجي.. أليس كذلك؟ فقال السلطان: نعم، وجلس ينظر في زوايا الغرفة الصغيرة التي تقطنها مع أولادها، فتعجب السلطان وقال: لماذا أنتم على هذه الحال من الفقر وقد علمت أن زوجك المرحوم كان يجني مالا كثيرا؟
أجابته المرأة: لقد كان زوجي الصالح يأتي كل يوم بالقليل من المال ما يسد به رمقنا لمعيشة يوم واحد. فسألها: زوج صالح؟!! لقد سمعت أنه كان ينصرف من عمله للهو وشرب الخمور. فتبسمت وقالت: لقد كان ينصرف من عمله ويأتي سيرا على قدميه، فكلما رأى رجلا من حاملي زجاجات الخمر كان يحاول إقناعه بالعدول عن المحرمات فيأخذها منه ويدفع له ثمنها ليكسرها ويهدرها، أما بنات الهوى فكان يمسك بيد الواحدة منهن وينصحها ويجعلها تعدل عن فعلها للحرام ويوصلها إلى بيتها بعد أن يدفع لها المال، وكنت أنصحه دائما أن ينقل عمله إلى حينا فيقول: وهل في حينا من يملك قوت يومه كي ينفق على حماره أو بغله؟!.
قلت له مرة ماذا لو حانت ساعتك وتوفيت في ذلك الحي البعيد حيث لا أحد يعرف أهلك أو بيتك؟ فرد علي : إن الله معنا والسلطان بايزيد سيتولى كل شيء بإذن الله
و ها أنت السلطان بايزيد عندنا.

ولهذا، كان الرجل النعال حس الظن بالله ، وهو من علامات سلامة القلب وطهارته ، أما سوء الظن بالله والناس فهو من لوازم خبث الباطن، فكل من يسيء الظن بالناس ويستدعي عيوبهم وعثراتهم فهو خبيث النفس سقيم الفؤاد، وكل من يحسن الظن بهم ويستر عيوبهم فهو سليم الصدر طيب الباطن، فالمؤمن يظهر محاسن أخيه، والمنافق يطلب مساوئه، وكل إناء يترشح بما فيه، هكذا قال السلف الصالح في رواياتهم وخطبهم، لأن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لأحد أن يعتقد في حق غيره سوءا إلا إذا انكشف له بعيان لا يقبل التأويل، فحينئذ لا يمكنه إلا يعتقد ما شاهده وعلمه، وأما ما لم يشاهده ولم يعلمه ولم يسمعه وإنما وقع في قلبه، فالشيطان ألقاه إليه، فينبغي أن يكذبه، لأنه افسق الفسقة، وقد قال الله:" إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ[10].

من دواعي الحكمة أن يعيش الإنسان على مبدأ (كن مُحسناً حتى وإن لم تلق إحسانا لأن الله يحب المُحسنين).. وكن مثل بيت الشعر الذي يقول :" وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا"، فأورع الناس وأفضلهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل إن نظر إليه بعضهم بعين الرضا ينظر إليه بعض آخر بعين السخط. فكل عدو وحاسد لا ينظر إلا بعين السخط، فيكتم المحاسن ويطلب المساوئ، وكل شرير لا يظن بالناس كلهم إلا شرا.
ونختم بقول أبي هريرة - رضي الله عنه – الذي قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )..هذا الحديث من أحاديث الرجاء العظيمة التي تحث المسلم على حسن الظن بالله جل وعلا ، والإكثار من ذكره ، وبيان قرب الله من عبده إذا تقرب إليه العبد بأنواع الطاعات .

كاتب بحريني
amurshed2030@gmail.com