إمرأةُ القصيدة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٥٠ ص

زاهي وهبي

لِمَن يكتبُ الشاعر؟ لامرأة الواقع أم لامرأة الخيال؟ من هي حقاً ملهمته؟ وهل ما يكتبه نتاج تجارب حقيقية أم ثمة ما هو أضغاث أحلام؟
أسئلة كثيرة تخطر على بالنا كلما قرأنا قصيدة ملأى بالصور المدهشة والاستعارات والتشابيه الجميلة، وكلما أخَذَنا بديعُها وبلاغتها الى عوالم فاتنة مغوية من فرط سحرها وبيانها. طبعاً لا يقتصر هذا التوصيف على قصائد الحُبّ حصراً بل يطاول الشِّعر عموماً. فالشاعر المبدع قادرٌ على استخراج الشِّعر واستنباط القصيدة من أكثر الأشياء جفافاً وعقوقاً، حتى أنه يستولد الجمال من أحشاء القبح والبشاعة، كتبَ الشعراء على مَرِّ الأيام قصائد رائعة في موضوعات مرذولة مثل البخل والخيانة والغدر وسواها، ولعل باب الهجاء خير مثال على ما نرمي اليه.
نتوسَّع لاحقاً في تناول شِعرية الشاعر، الآن نكتبُ عن المرأة في القصيدة، أو عن امرأة القصيدة. أهي وليدة الواقع والتجربة أم نتاج أخيلة وأحلام وتمنيات؟ لو كان الكاتب امرأة لبحثنا عن المعشوق الرجل، وكيفية حضوره في قصيدة المرأة العاشقة، هذا أيضاً يستحق بحثاً خاصاً لأن شِعْر الحُبّ لدى النساء، خصوصاً العربيات، يختلف كثيراً عنه لدى الشعراء الرجال، أسباب الاختلاف متعددة ومركبة نعود اليها في مقالة لاحقة. أما امرأة القصيدة فنظنُّها خلاصة عوامل متداخلة ومنصهرة في وجدان الشاعر وخياله، أي أنها مزيج من واقع وخيال، حقيقة وأضغاث أحلام، منظورة ولا منظورة، متجسدة بشراً سوياً وطيف محلِّقٌ في سماء التمنيات. كلُّ ما تقدَّم ينصهر و"ينعجن" وينضج على نار الموهبة ثم يأتينا على هيئة قصيدة بالغة الغنج والدلال.
مهما قيل أو يُقال يظل شِعْر الحُبّ من أمتع ما ابتكرَ الانسان، ففي ثناياه وبين سطوره تكمن حياة بِرُمَّتها، فيه العشق والشوق والوجد والأسى واللوعة ودمعة الفراق. قصيدة الحُبّ تختزن وتختزل المشاعر الانسانية في بوتقة واحدة، وهي تولَدُ حكماً من رحم تجربة عشقية، فما قالته العرب قديماً بأن أعذب الشِّعر أكذبه لا يَصحُّ في المشاعر والأحاسيس، بل قُصِدَ به الشطح الشِّعريّ في تشبيه الحبيبة أو سواها بما لا يقبله العقل أو يستوعبه. أما في ما خَصَّ المشاعر والأحاسيس فأعذب الشِّعر أصدقه.
هل يعني ذلك أن كل قصيدة حب يكتبها الشاعر هي وليدة تجربة حب؟ لِنستدرك أولاً بالقول إن تجربة الحُبّ مختلفة عن حالة الحُبّ، نبيِّن الفارق بينهما في ما سوف يأتي. دائماً أشبِّهُ الشِّعر بالمياه الجوفية الكامنة في أعماق التربة، لا تتفجر تلك المياه ينابيع وأنهاراً الا متى قصف الرعد بقوة، كذلك حال القصيدة لا تتدفق من جوف الشاعر الا متى تعرض لرعدة هائلة. الرعود الانسانية متنوعة تنوعَ الحياة نفسها، من المهد الى اللحد تتوالى الرعود. ماذا نقصد بالرعود الانسانية؟ نعني تلك الهزَّات التي تصيبنا بسبب مواقف نتعرض لها، ومنها حالات العشق التي تفجر ينابيع المشاعر والأحاسيس ويصوغها الشعراء قصائد ولا أبهى.
طبعاً الرعدة الأعنف هي حالة العشق الفعلية التي يعيشها الشاعر بكل جوارحه، لكن ثمة رعود خفيفة قادرة على تفجير مياه الشِّعر، مثل امرأة عابرة رمت ضحكتها ومضت، لم يلتقِها الشاعر من قبل ولن يلتقيها من بَعْد، لكن تلك الضحكة التي فطرت قلبه تشبه عود الثقاب الذي رغم صغره وضآلته قادر على احراق غابة بأكملها. هنا يمكننا العودة الى الفارق بين تجربة الحُبّ وحالة الحُبّ، التجربة هي ما يعيشه العاشق فعلاً وواقعاً، الحالة هي ما يختلج في نفسه ووجدانه حتى لو لم يعش لذائذ الوصال. ضحكةُ العابرة أو دمعتُها استخرجت تلك الحالة من أحشاء شاعرها وجعلتها قصيدة. أي أن ما يكتبه الشاعر استلهاماً من "آخرين" سواء كانوا بشراً أو كائنات أو مواقف وأحداثاً إنما يحاكي أشياء تعتمل في داخله منتظِرةً مَن أو يفجرها بياناً وبديعا.
أما لماذا وُلِدَت قصائد العشق العظيمة من رحم معاناة وشوق وتوق وموانع حالت دون متعة الوصال؟ لماذا كتبَ الشعراء ويكتبون لامرأة انصرفت أكثر مما كتبوا ويكتبون لامرأة أقبلت؟ لماذا يبكون نساءً خسروهنَّ أكثر مما يفرحون بنساء تجسَّدنَ في حياتهم ملائكة رحمة وإغاثة؟ لماذا تبدو المرأة المستحيلة أكثر استيلاداً للشِّعر من المرأة الممكنة؟ تلك أسئلة تلزمها مقالة أخرى، آتية.