محمد بن محفوظ العارضي
أعلنت منظمة الأمم المتحدة عام 2021 «عام الاقتصاد الإبداعي»، وذلك بالتزامن مع الذكرى السنوية الرابعة لإطلاق «اليوم العالمي للإبداع والابتكار» الموافق 21 أبريل.
ومع سعي مختلف دول العالم اليوم إلى تخصيص أكبر قدر من الموارد لتسريع تعافي اقتصاداتها في فترة ما بعد كوفيد-19، يمكن أن نشهد إحدى أهم المراحل التاريخية التي تحفز مجتمعاتنا لاستكشاف طرق أفضل للاستفادة من إبداعات العقل البشري وتوفير حلول مبتكرة لتعزيز تقدم منطقتنا.
فمنطقتنا تتميز بتاريخ حافل في ريادة الأعمال التي تطورت في دول مجلس التعاون الخليجي بوتيرة متسارعة خلال العقود القليلة الماضية بفضل رؤية قياداتها الرشيدة وفرص النمو الاقتصادي الواعدة بالنسبة للشركات في المنطقة، إضافة إلى الاستثمارات الهادفة لتنويع اقتصاداتنا، والتركيز على الشراكات العالمية الاستراتيجية.
واليوم تسير دول منطقتنا اليوم بثبات نحو تحقيق رؤاها الاستراتيجية لتصبح مستعدة للمستقبل. وقد شهدنا استثمارات ضخمة في مشاريع البنية التحتية الوطنية والإقليمية، ولعل من أبرز المشاريع في الواعدة هذا السياق سكة حديد دول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن تحقيق تقدم ملحوظ في مجال الطاقة المتجددة، الذي أصبحت المنطقة وجهة عالمية لمؤتمراته الدورية وخبرائه المتخصصين ومعارضه التجارية.
وبالتوازي مع هذا النهج، أصبح للقطاعات الإبداعية في منطقتنا شخصيتها الخاصة، إذ تستضيف دول المنطقة الآن فعاليات ثقافية ومهرجانات سينمائية منوعة مع الاستمرار في ضخ الاستثمارات في القطاع الإعلامي وإنتاج المحتوى المحلي والإبداعي.
لكن ثمة مجال دائم للنمو، فالابتكار يحدث على جميع المستويات داخل المؤسسات وخارجها، ويمكنه أن يولّد منافع على المديين المنظور والبعيد. والأهم من ذلك أن هذه المنافع تسرّع وتيرة النمو الاقتصادي وتعزز التنمية الاجتماعية وتساعد على تمكين المواطنين.
ويتخذ الابتكار أشكالاً لا حصر لها، إذ يحدث الابتكار عند توليد الأفكار الجديدة أو تكوين قطاعات جديدة أو تحديد الفرص الناشئة الواعدة في مجالات معينة اقتصادياً واجتماعياً.
ومن أمثلة الابتكار التي عايشناها مؤخراً التحول السريع للعديد من الشركات والأفراد الذين لاحظوا الارتفاع المفاجئ في الطلب على منتجات التعقيم ومعدات الحماية الشخصية في بداية تفشي وباء كوفيد-19، وتوجههم نحو صناعة هذه المنتجات التي لاقت طلباً عالياً، بعد أن نجحوا في تحديد نقص في المعروض تمكنوا من خلاله من توليد أرباح مجزية وتلبية احتياجات المجتمع في الوقت نفسه. وتمكنت الشركات كبيرة الحجم التي تمتلك منشآت تصنيع واسعة، من الاستفادة من هذا الطلب، إلى جانب الشركات الصغيرة وحتى الأفراد الذين يعملون من المنزل والذين يمتلكون المهارات اللازمة لتصنيع بعض المنتجات يدوياً.
لذلك لدينا اليوم الفرصة في المنطقة لتشجيع ثقافة الابتكار وإيجاد الحلول خارج الأطر التقليدية، إلى جانب الاستثمار في المجالات الإبداعية المعروفة مثل الفنون والتكنولوجيا والتصميم والأعمال. ويمكننا البدء من تعزيز إدراك المواهب والعقول المبدعة في منطقتنا بقدراتها الكامنة وفرصها المتاحة، وتعريفهم بالأدوات التي تساعد على تسويق الأفكار والمنتجات.
وهناك اليوم فرصة مميزة أمام القطاعين العام والخاص للتعاون في تعزيز الاستراتيجيات التي تشجع الإبداع لدى كافة فئات المجتمع في منطقتنا الغنية بالفرص.
ومن الأهمية أيضاً أن نشرك شبابنا في مسيرة الابتكار، إذ يمكن للمؤسسات التعليمية أن تستضيف ورش العمل والمسابقات لتمكين الطلاب من استغلال قدراتهم الإبداعية وتحويل أفكارهم إلى مشاريع يمكنها أن تُحدث تغييراً مستداماً، والاستفادة من فرص الابتكار المتوفرة في مختلف المجالات، وهذا يشمل الخدمة العامة، وقطاع الأعمال، والعلوم والتكنولوجيا، والتصميم، والترفيه والفنون.
وكما تظهر الدراسات، تشكل الشركات الصغيرة والمتوسطة محركاً أساسياً للناتج المحلي الإجمالي لأي دولة، فضلاً عن مساهمتها في خلق فرص العمل وتحقيق النمو الاقتصادي. ويعتبر الرواد من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة من أهم العقول المبدعة في منطقتنا، ويجب دعمهم تماشياً مع تاريخنا الطويل في ريادة الأعمال.
وفي ظل الظروف الحالية، قد يتردد رواد الأعمال في إطلاق مشاريعهم وشركاتهم واغتنام فرص اقتصاد ما بعد الوباء. وهنا يكمن دور الحكومات والمؤسسات المالية التي يمكنها أن تقدم حوافز خاصة مثل تنويع خيارات التمويل والإقراض الميسّر لتسهيل تأسيس الأعمال.
ويمكن للشركات الآن التركيز على الابتكار باعتباره هدفاً رئيسياً والحرص على الإبداع في مختلف مراحل سلسلة القيمة. ولها في النتيجة الإيجابية الناجمة عن الابتكارات العديدة بعد الجائحة والتي لقيت إقبالاً مرتفعاً درس مهم في كيفية مساعدة الناس على مواصلة حياتهم والتخفيف من تداعيات الجائحة من جهة، وتحقيق النمو من جهة ثانية. كما أن الظروف غير المتوقعة قد تكون فرصة للشركات لصناعة منتجات جديدة أو توفير خدمات غير مسبوقة أو تكييف خدماتها الحالية لتتناسب مع الوضع القائم.
وهنا لا بدّ من وجود نهج استباقي للتعامل مع الابتكار يمكّن الشركات من مراقبة نبض السوق وتطوير مفاهيم جديدة باستمرار لمساعدتها في تحقيق أهدافها على المدى البعيد.
لقد نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في تنويع اهتماماتها الاقتصادية وتقليص اعتمادها على النفط خلال العقود القليلة الماضية. ومثل معظم دول العالم، عانت دول منطقتنا من التداعيات الناجمة عن وباء كوفيد-19. لكن قياداتنا الرشيدة تمكنت من احتواء آثار هذه الأزمة وإدارتها بكفاءة واقتدار.
وفيما تقف منطقتنا اليوم على مفترق طرق، يشكل تاريخنا وحضورنا العالمي مصدر إلهامنا. ولدينا كل ما نحتاج لتعزيز اقتصاداتنا لتخطي التحديات. وكلنا ثقة بأننا سنحقق أهدافنا على المدى البعيد وسنحمي اقتصاداتنا للمستقبل من خلال التخطيط المستمر والالتزام المتجدد بالابتكار في جميع الميادين.