جسر بريطاني إلى أوروبا المُقَسَّمة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/أبريل/٢٠١٦ ٢٣:٥١ م
جسر بريطاني إلى أوروبا المُقَسَّمة

روبرت سكيدلسكي

لم يحظ الاتحاد الأوروبي بشعبية كبيرة في بريطانيا قَط. فقد انضمت إلى الاتحاد متأخرة، وسوف يُطلَب من ناخبيها في الثالث والعشرين من يونيو أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون ترك الاتحاد مبكرا. ولن تكون نتائج الاستفتاء ملزمة قانونا للحكومة، ولكن من غير المتصور أن تبقى بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إذا قررت جماهير الشعب الرحيل.
على مر السنين، تحول تركيز الجدال البريطاني الدائر بشأن أوروبا. ففي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كان السؤال هو ما إذا كان بوسع بريطانيا أن تتحمل تكاليف عدم الانضمام إلى ما كان يُعرَف آنذاك باسم السوق الأوروبية المشتركة. وكان مكمن الخوف هو أن تُحرَم المملكة المتحدة من دخول السوق الأسرع نموا في العالم، وتصبح شراكتها مع الولايات المتحدة أيضا عُرضة للخطر: وبهذا يتألف التحالف الغربي من ركيزتين، وتصبح أوروبا، وليس بريطانيا المنكمشة، إحدى هاتين الركيزتين.
اليوم أصبح إضعاف أوروبا، وليس تعزيز قوتها، هو المحرك الذي يدفع المناقشة في المملكة المتحدة. فالبريطانيون يرون أن أحوالهم على خير ما يرام، في حين تتدهور أحوال أوروبا. والواقع أن الفشل كان السمة المميزة للاتحاد الأوروبي منذ انهيار عام 2008. فخارج بريطانيا وألمانيا، لم يشهد الاتحاد الأوروبي أي نمو اقتصادي تقريبا. وهو عاجز عن الدفاع عن حدوده ضد الإرهابيين ("أوروبا ليست آمنة"، كما يُصَرِّح دونالد ترامب). وتفتقر مؤسساته إلى الشرعية. ولا يستطيع الاتحاد الذي يتألف من 28 دولة شِبه ذات سيادة أن يعمل، بل يصدر نوايا العمل فحسب. وليس من المستغرب أن تنشأ حركة تهدف إلى استعادة السيادة الوطنية، حيث لا تزال بعض سلطة اتخاذ القرار قائمة.
لقد أصبح مصير الاتحاد الأوروبي متشابكا على نحو باعث على اليأس مع أكثر مظاهره ضعفا: منطقة اليورو التي تتألف من 19 عضوا، والتي هي معقل العملة الموحدة للركود الاقتصادي. في نظر المسؤولين في بروكسل، تُعَد منطقة اليورو هي الاتحاد الأوروبي. ولم يُسمَح إلا لبريطانيا والدنمرك باختيار الخروج. ومن المتوقع أن ينضم أعضاء آخرون، بما في ذلك السويد، عندما تفي بالمعايير. وكان المفترض أن تكون منطقة اليورو المحرك للاتحاد السياسي. ولكن المحرك توقف.
من المؤكد أن أزمة 2008 بدأت بالانهيار المصرفي في الولايات المتحدة. ولكن أغلب بقية بلدان العالم تعافت، في حين لم تتعاف أغلب بلدان أوروبا. ولتقييم السبب، ركزت ندوة أقيمت مؤخرا حول هذا الموضوع في نوفيلد كوليدج في أكسفورد على الافتقار إلى سلطة ذات سيادة وقادرة على حماية الاقتصاد الأوروبي ككل من الأزمات المعدية التي تنشأ في أماكن أخرى. وتشمل الأجزاء المفقودة من السيادة نظام التحويل المالي في الاستجابة لصدمات غير متساوقة؛ والأصل الخالي من المخاطر (سندات اليورو) حيث يمكن اختزان الأموال الزائدة عن الحاجة؛ ونظام موحد للإشراف المصرفي وإدارة أسواق رأس المال؛ وبنك مركزي قادر على العمل كملاذ أخير للإقراض؛ والقدرة على تنظيم برنامج على نطاق الاتحاد الأوروبي بالكامل لتثبيت الاستقرار وتحقيق التعافي.
الواقع أن منطقة اليورو أضعفت الدول القومية التي تتألف منها، من دون إنشاء دولة فوق وطنية تحل محل الصلاحيات التي خسرتها الدول الأعضاء. وبالتالي فإن الشرعية تظل قائمة على مستوى السلطة السياسية التي فقدت سمات السيادة التي تستمد منها الشرعية (مثل القدرة على تغيير أسعار الصرف).
ومن ناحية أخرى، يتواصل تدفق وعود العمل. فيدعو ما يسمى تقرير الرؤساء الخمسة إلى "استكمال الاتحاد الاقتصادي والنقدي في أوروبا" كتمهيد لإقامة "اتحاد سياسي". ولكن أهذا هو التسلسل الصحيح؟ تاريخيا، كان الاتحاد السياسي يسبق الاتحاد الاقتصادي والنقدي. وكما أشار بلا كلل أو ملل كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى البنك المركزي الأوروبي أوتمار آيسنج، ففي غياب السيادة تؤدي عملية نقل الصلاحيات ــ بما في ذلك السياسة النقدية ــ إلى مستويات متزايدة الارتفاع إلى خلق عجز ضخم في الشرعية.
حاول الاتحاد الأوروبي إقامة اتحاد سياسي بشكل تدريجي، لأن البدء به كان مستحيلا. ولم تكن التوقعات بأن تتسبب الأزمات المتلاحقة في دفع التكامل الأوروبي إلى الأمام مستترة إلا بالكاد. ومن المؤكد أن هذا كان أمل جان مونيه. أما البديل ــ أن تخلف الأزمات التأثير العكسي، والذي يؤدي بالتالي إلى تفكك الاتحاد الاقتصادي والنقدي ــ فلم يتناوله أحد بجدية قَط.
الواقع أن قِلة من المواطنين في المملكة المتحدة قد يرحبون بالتحرك السريع نحو اتحاد سياسي، على افتراض أن هذا يعني سد الثغرات في السيادة والتي أصابت منطقة اليورو بالشلل. وتقضي الصفقة التي تفاوض عليها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون مع رؤساء الحكومات الأوروبية كشرط للبقاء في الاتحاد الأوروبي بإعفاء بريطانيا على وجه التحديد من الالتزام بما يسمى "الاتحاد السياسي المتزايد التقارب". ولكن من الصعب أن نرى كيف يمكن إنجاح منطقة اليورو في غياب الاتحاد السياسي.
ومن المرجح بالتالي أن تتفكك منطقة اليورو إلى أجزاء أكثر توافقا، بعد المزيد من الجهود الفاشلة لشق الطريق إلى الأمام. وبوسع المرء أن يتخيل منطقة عملة موحدة شمالية تتمتع بالقدر الكافي من السيادة (الذي توفره ألمانيا، أو ألمانيا وفرنسا معا إذا تحرينا المزيد من المصداقية) لإنجاحها، على أن ترتبط بالتجارة الحرة مع المنطقة الجنوبية التي لا تخضع للقواعد النقدية والمالية التي تضعها الكتلة الشمالية. وعلى وجه التحديد، يدير أعضاء الكتلة الجنوبية أسعار صرف ثابتة ولكنها قابلة للتعديل في ما بينهم ومع الاتحاد الشمالي.
بيد أن الكتلة الجنوبية سوف تفتقر إلى عضو يتمتع بالقدر الكافي من الثِقَل والهيبة لموازنة ألمانيا. ولن يكون هذا العضو إلا بريطانيا. وهذه هي الحجة الرئيسية ضد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي: فمن خلال البقاء، يصبح بوسع بريطانيا أن تضمن أن عملية تفكك منطقة اليورو، إذا حدثت أو عندما تحدث، لن تكون فوضوية تماما، وأنها سوف تحافظ في كل الأحوال على بعض من روح مؤسِّسي الاتحاد الأوروبي. وينبغي لبريطانيا أن تخشى الطلاق العنيف، لأن الدوامة التي سيحدثها سوف تجتاحها حتما.
كان العمل كجسر بين عالمين مختلفين جزءا دائما من الدور الذي تلعبه بريطانيا. وبوسعها أن تلعب هذا الدور بين الأوروبيتين في المستقبل، ولكن هذا لن يتسنى لها إذا اقتطعت نفسها من أوروبا الواحدة القائمة حاليا.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.