اوروبا ومواطنيها

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢١/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٥٠ ص
اوروبا ومواطنيها

آنا بالاسيو

كان الشهر الفائت شديد القسوة على أوروبا، وقد بلغت قسوته ذروتها في الهجمة الإرهابية المروعة على بروكسل في الثاني والعشرين من مارس. وقد شهدت الفترة اللاحقة جولة أخرى من البحث في الذات، مع تأمل الأوروبيين في الإخفاقات المؤسسية التي شهدها الاتحاد الأوروبي وعجزه التام، ناهيك عن التحدي الوجودي الذي يواجهه حاليا.
ويبدو أن مثل هذه الاعتبارات تنشأ على نحو متكرر في أيامنا هذه، مع مواجهة أوروبا لسلسلة تبدو بلا نهاية من الأحداث الطارئة، من الأزمة اليونانية إلى تدفق اللاجئين. ومع ذلك، يظل الشعور بالرضا عن الذات سائدا، مع تبني زعماء الاتحاد الأوروبي لعقلية الاستجابة للأزمة التي تعطي الأولوية لرد الفعل وليس الفعل وتتسبب في إدامة دورة عدم الاستقرار.
ولأن الأزمات أصبحت المعتاد الجديد في الاتحاد الأوروبي فقد تعزز الانطباع السائد بالفعل بين محبي أوروبا والبيروقراطيين الأوروبيين بأننا سوف نستمر ببساطة في التخبط. بيد أن هذا النهج مضلل وشديد الخطورة.
في ظل الظروف الحالية، تتفكك الوحدة الأوروبية بسرعة. وكان الاستفتاء الذي انتهى للتو في هولندا، حيث رفض الناخبون الهولنديون بأغلبية ساحقة اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، أحدث مثال على ذلك. وإذا كان للاتحاد الأوروبي أن ينجو من الكارثة التي تقترب بالحركة البطيئة، ناهيك عن تحقيق الازدهار في الأمد البعيد، فإن الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات جريئة عاجلة ــ وليس مجرد كلمات تنم عن شجاعة.
الآن حان الوقت لاتخاذ القرار حول ما إذا كان الاتحاد الأوروبي مشروعا عابرا للحدود الوطنية حقا أو مجرد وعاء لترتيبات بين عِدة حكومات. وإذا كانت الحال هي الأخيرة، فيتعين علينا أن نسمى الأشياء بأسمائها. ولكن في هذه الحالة، ينبغي لنا أن نفهم أننا ــ الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فرادى ــ نستسلم فعليا للعزلة وتضاؤل الأهمية والمكانة. والاكتفاء بمجرد الحديث المفخم عن اتخاذ نهج مشترك في مجالات حَرِجة مهمة يقودنا إلى ترك المشاكل بلا حل وإهدار الفرص. والأمر ببساطة أننا إذا تبنينا نهجا يترك لكل فرد أن يتدبر أمره بنفسه فسوف نغرق جميعا.
الواقع أن المشروع العابر للحدود الوطنية هو الخيار المتفوق. ولكنه أيضا الخيار الأكثر صعوبة، لأنه يستلزم إدخال تغييرات عميقة وجوهرية على كيفية التعامل مع مسألة التكامل الأوروبي.
تتخلص الخطيئة الأصلية التي ارتكبها المشروع الأوروبي في عدم وجود جمهور انتخابي أوروبي، باستثناء بروكسل. فالجميع ينظرون إلى الأحداث والسياسات والتحديات من خلال عدسة وطنية. وقد أبرزت أزمة اللاجئين هذه الحال بكل وضوح؛ ولكن كل ضغط على النظام الأوروبي يدفع بمنظور قومي إلى الصدارة.
ولماذا لا ينبغي أن تكون هذه هي الحال؟ إن المساءلة السياسية ــ ناهيك عن أموال الضرائب ــ تتدفق من المواطنين إلى العواصم الوطنية. ولكن الانقسام بين الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية انقسام زائف. ذلك أن التبعية، المطبقة والمفهومة على النحو الصحيح باعتبارها سلطة اتخاذ القرار على المستوى المناسب من الحكومة، تشكل ولابد أن تظل تشكل مبدأ مرشدا للعمل الأوروبي. ولكن هناك برغم ذلك بعض الأوقات يكون فيها العمل الجماعي مطلوبا. ولكي يكون مثل هذا العمل فعّالا، فلا يجوز لمستوى الاتحاد الأوروبي أن يكون مكانا للثرثرة وإلقاء المسؤولية على الآخرين.
ولا يجوز للشخصيات السياسية الوطنية أن تستمر في الادعاء بأن بروكسل أو المفوضية الأوروبية هي مصدر كل المشاكل، أو تسعى إلى اتخاذ تدابير أنانية قصيرة النظر تؤدي في نهاية المطاف إلى تفاقم الأزمات. ولا يجوز للمسؤولين الأوروبيين أن يستمروا في نفض المسؤولية عن أنفسهم وإلقائها على عاتق الساسة الوطنيين بسبب فشلهم في تنفيذ التدابير المقترحة على مستوى الاتحاد الأوروبي بالكامل. وبدلا من هذا، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى سلطة حقيقية لتنفيذ السياسات.
مؤخرا، صرح لي أحد المطلعين في بروكسل بأن الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً بأزماته، يدخل بالفعل مرحلة جديدة من التمكين، حيث يتمتع هو، وليس الدول الأعضاء، بسلطة تنفيذية حقيقية. وهناك أمثلة متنوعة لتولي الاتحاد الأوروبي شيئا من المسؤولية التنفيذية؛ فمن المتوقع أن يلعب الاتحاد الأوروبي دورا رياديا في تنفيذ اتفاقه الأخير مع تركيا لحل أزمة اللاجئين.
ولكن التحول الحقيقي والمشروع نحو دور تنفيذي فعّال للاتحاد الأوروبي يتطلب ارتباطا أقوى بين الناس وأولئك الذين يتصرفون نيابة عنهم. بعبارة أخرى، يتعين علينا أن نعمل على إنشاء دائرة انتخابية عابرة للحدود الوطنية.
وهي ليست بالفكرة الجديدة. فقد كانت فكرة المواطنة الأوروبية موضع تأييد لفترة طويلة، وتضم معاهدات الاتحاد الأوربي بنودا ربما تخدم كنقاط انطلاق نحو تحقيق هذه الغاية. ولكن التقدم المحدود على هذه الجبهة يعكس مشاعر شعبية. ففي السنوات الخمس التي مرت منذ بدأ اليوروباروميتر يسأل المشاركين في الاستطلاع ما إذا كانوا يشعرون بأنهم مواطنون في الاتحاد الأوروبي، ارتفع عدد المستجيبين بالإيجاب بنحو 2% فقط (من 62% في 2010 إلى 64% في 2015).
إن تعميق الروابط السياسية بين الأوروبيين يتطلب إصلاحا مؤسسيا يقوم على العمل الجماعي، والوعي الجماعي، والملكية الجماعية. والواقع أن بذور مثل هذا المسعى ــ من الاستعاضة عن نظام المرشح الأوفر حظا (وهو نظام أنيق ولكنه بلا حياة) بنظام آخر يقوم على عقد انتخابات على مستوى الاتحاد الأوروبي لاختيار رئيس المفوضية الأوروبية إلى دراسة فرض ضريبة محدودة ولكن مباشِرة على مستوى الاتحاد الأوروبي لإنشاء خط واضح للمساءلة ــ متوفرة بالفعل.
من المؤكد أن مثل هذه الجهود تواجه رياحا سياسية معاكسة خطيرة؛ فالنظام الحالي مريح للغاية في نظر كثيرين على أية حال. ولكن عملية التفكك جارية بالفعل. والواقع أن المواطنين الأوروبيين الواعين فقط هم القادرون على إضعاف قوى الطرد المركزي التي تنشأ في كل أزمة، لأن مثل هؤلاء المواطنين فقط هم من يمكنهم ضمان المساءلة على مستوى الاتحاد الأوروبي، وإرغام المسؤولين على صياغة وتنفيذ سياسة فعّالة، وبالتالي كسر حلقة تبادل اللوم التي أصبحت راسخة في عملية صنع القرار الأوروبي. وسوف يكون خلق هذا الوعي عملية طويلة الأجل ولكنها تشكل ضرورة أساسية.
في وقت يتسم بمثل هذه التحديات العصيبة، ربما يبدو تعزيز جهود تجاوز الحدود الوطنية فكرة متطرفة وغير قابلة للتحقق. ولكن ما لم ندرك الأسباب الحقيقية وراء استمرارنا في التعرض للأزمات، فسوف يُحكَم علينا بمواصلة التخبط إلى أن يتهدم الاتحاد الأوروبي بالكامل.

وزيرة خارجية أسبانيا السابقة، ونائبة رئيس البنك الدولي ومستشارته العامة سابقا.