الهراطقة الجدد

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٤/فبراير/٢٠٢١ ٠٨:٥٤ ص
الهراطقة الجدد

مسقط - الشبيبة

بقلم : محمد بن علي البلوشي

في الثلاثينيات من القرن الفائت اجتاحت المجاعة بعض مناطق الاتحاد السوفييتي حيث لم تمضِ على قيام الثورة البلشفية 12 عامًا. مجاعة وصفت بأنها من «صنع الإنسان» بعد أن طبقت الثورة الزراعة الجماعية فأخذت المزارع من الأفراد إلى الجماعات فانهار النظام الزراعي.

أُغلق الاتحاد أمام العالم بحذر فما يحدث قد يضعف الروح المعنوية للثورة وجموعها. فالآلة الدعائية الغربية أوسع نطاقًا ولا يدمر المشروع وإن كان نبيلاً إلا «الدعاية المغرضة» كما اعتقد الثوريون..من ويلز البريطانية اندفع غاريث جونز وهو صحفي مستقل للمغامرة باستكشاف ماذا تصنع الثورة الجديدة في الاتحاد السوفييتي فتمكن من الحصول على تأشيرة والسفر إلى موسكو .هناك سيحدد له فندقًا لينزل فيه كما ينزل بقية الضيوف الزائرين إلى الاتحاد. الفندق تحت مراقبة دائمة على مدار اليوم من بوابته إلى موظف الاستقبال إلى سلالمه وممراته ومطعمه وحاناته فهو منجم ثري للتعرف فيما يفكر هؤلاء النزلاء. لم يجد جونز في موسكو شيئًا لكن أحداً ما أفشى له ما يدور ويختبئ بما بعد العاصمة. عن معاناة وعطش وجوع ومرض. عن ثورة تأكل أبناءها وإن آمنوا بها. كانت أوكرانيا التي ظلت وجعًا في خاصرة الاتحاد السوفييتي سابقًا والآن مع روسيا. هرب جونز إلى أوكرانيا لكشف قصة مخبأة عن الناس والثورة. هرب وانغمس بين الناس في القرى ليشاهد جثثًا تسقط في الطرق فالمجاعة تضرب الأماكن والحبوب والقمح يرسل إلى موسكو لإطعام الثورة. بسبب الجوع ونقص الغذاء اضطر جونز إلى أكل لحاء الشجر. أملاً في البقاء على قيد الحياة ومدفوعًا كإنسان بغريزة البقاء. بعد أن اختبأ عن المخبرين السريين الذين يتولون مراقبة الصحفيين الغربيين فيتلصصون عليهم منذ هبوطهم إلى الفندق المخصص لهم في العاصمة حتى مغادرتهم البلاد.

لماذا يكلف صحفي نفسه ذلك بينما يستطيع أن يكتب ما يحدث وهو في ويلز ويرسل قصته إلى عدة صحف وبخاصة أن الثورة كانت تتضاد مع العالم الرأسمالي آنذاك.لا شيء سوى معرفة الحقيقة وتبينها؟ لم يجلس ليؤلف قصته ويبيعها دون التحري عنها؟ لماذا اضطر إلى بلع لحاء الشجر؟ أمر كاد أن يكلفه حياته؟ لماذا يغامر مثل جونز بحياته لأجل الحقيقة ماذا يهمه إن مات الآلاف في الاتحاد السوفييتي من الجوع بسبب المزارع الجماعية أو في الصين بسبب الثورة الثقافية؟ هل كان يهدف لإلهاب الجماهير للثورة على النظام أو الأنظمة التي تتشابه معها أم لتوجيه رسالة للعالم الحرعن بشر يموتون بسبب «صنع الإنسان»؟

أوجدت لنا وسائل التواصل الاجتماعي اليوم وبعد ما يقارب من 100 عام القدرة على تأليف مئات القصص وأنت متكئ على أريكة مريحة. تؤلف قصة لأنها لا تعجبك أو تعجبك. تأخذ منها نصف الحقيقة وترمي بالأخرى ليصدق الناس نصف الحقيقة أو نصف الفكرة. إنه عصر نصف الفكرة ورميها كصورة صادقة لكنها في الواقع قد تكون مشوهة إلا أن الناس يرونها صادقة. ومعها أصبح كل زر وكل كلمة تجمع جيشًا من المتفرجين المصدقين وما أكثرهم. غاب المشككون واختفوا أمام الجماهير التي تنقاد إلى تصديق كل شيء. فالسطحيون باتوا يسيطرون على عقول الأغلبية الساحقة. يمكن لأي ضال أن يؤلب جيشًا عبر الأفكار السطحية. دون التحري. في الواقع أن السطحية هي التي تغلب على ذلك. هي تستولي على ما يريد الآخرون التحدث عنه. وليس للدفاع عن مبدأ أو حقيقة. نحن لربما نتصادم في داخلنا بين نوعية هياكلنا السياسية وبين النظم السياسية في العوالم الأخرى. هذه القصة تلهم من يعيش في هذا العصر وبين زمنين. الأول لم تكن متاحة به هذ الثورة التكنولوجية التي نعيشها من وسائل التواصل التي في المقام الأول نعمة لنا قبل أن يحولها الحمقى إلى نقمة. كان الفاكس والصورة الورقية هي البرهان واليوم في ضغطة زر يمكن أن تؤلف قطيعًا كبيرًا لتجري عملية نهب وسطو على العقول قبل أن يلتفت أحدهم إلى الحقيقة. وهنا أختم هذه الهرطقة بما قاله ذات مرة سعادة اللواء متقاعد سالم بن مسلم قطن: خذوا الحقيقة من مصدرها».