بين الأنوثةِ والذكورة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٧/أبريل/٢٠١٦ ١٧:٤٥ م
بين الأنوثةِ والذكورة

القول بإعلاء شأن الأنوثة ليس تقليلاً من مقام الذكورة وما تضمره من أبعاد ودلالات لا غنى عنها ولا بد منها. فالحياة قائمة على التوازن بين هذه الثنائية، كلُّ ما يُولَد وينمو ويكبر ركيزته الأساس التلاقح المثمر بين الجنسين. لكننا ننتصر للأنوثة بسبب الخلل الهائل الذي أصاب الحياة المشتركة مُذ طغت الذكورة على نصفها الآخر. أميلُ إلى الاعتقاد بأن كلمة إنسان هي مثنى لا مفرد، قد يكون في القول التالي جموحٌ شاعريٌّ، وَلِمَ لا؟، أنس+أنس=انسان. والإنسان الذي نعنيه هو امرأة ورجل معاً، لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بهذا اللقاء بين الجنسين، لهذا اعتبرت الشريعة الإسلامية الزواج نصف الدين، وذهبت الكنيسة المسيحية إلى اعتباره رباطاً مقدساً وسراً من أسرارها. حتى في المعنى القاموسي كلمة إنسان التي تعني الكائن العاقل المفكِّر يستوي فيه الذكر والأنثى، ولا فضل لأحدهما على الآخر.

لا نريد التقليل أبداً من أولئك الذين يختارون البقاء وحيدين من دون شراكة أحد، أو حتى الذين يذهبون مذاهب شتى في شراكاتهم، لكننا نؤمن أن التكامل بين المرأة والرجل هو ما يحقق الكائنَ السَّوَيّ، ويمنحه التوازن المطلوب في مواجهة تعقيدات الحياة وصروفها المختلفة. طبعاً النَّفْس البشرية أكثر التباساً وتعقيداً من اختصارها في اتجاه واحد أو خيار واحد، فيها من السراديب والدهاليز المحيرة التي أعيت علماء النَّفْس والاجتماع الإنساني. ما نحاول قوله إن العلاقة بين الجنسين ليست في حالٍ مُثلى، ليس العلاقة العاطفية أو الزوجية، بل العلاقة الإنسانية، الشراكة الطبيعية في الحياة بمعزل عن صلة الرحم والقرابة. كيف يتعامل الرجل مع المرأة، والمرأة مع الرجل في مشوار العمر وميدان الحياة، سواء كانا من الأقربين أو من الأبعدين، في البيت أو المكتب، في الشارع أو المقهى، باختصار: في الحياة.

رأى بعض الأصدقاء في مقالة الأحد الفائت التي حملت عنوان «في معنى الأنوثة» ظلماً للذكورة وانتصاراً للمرأة على حساب الرجل، والواقع أن طغيان الذكورية على المجتمعات البشرية منذ قرون من الزمن فيه ظلم للأنوثة والذكورة على السواء، كيف؟ حين يعطل نصف المجتمع نصفه الآخر، يكبته ويقمعه، يشلُّ قدراته ويحجر عليه بذريعة الحرص والحماية والوقاية. فإنه في الحقيقة يضعه في سجن كبير، ويتصدى وحيداً لمشقّات الحياة متوهماً أنه بذلك يسود ويسوس ويسيطر، لكن واقع الحال يقول إنه يظلم الآخر الشريك ويظلم نفسه بتحميلها ما فوق طاقاتها وحرمانها من التوازن بمعيِّة توأمها الذي هو المرأة.

انطلاقاً من هذا الفهم للشراكة بين الجنسين في مواجهة أعباء الحياة، ولا نعني فقط العمل والكفاح لأجل لقمة العيش، بل أيضاً أعباء المشاعر والأفكار والأعصاب، حالات الفرح والحزن والشوق واللوعة والأسى والحنين وكل ما يعتمل في الداخل الإنساني. الانتصار للأنوثة وحقها البديهي في التحقق والوجود بوصفها معطى إنسانياً كامل الأوصاف، هو انتصار للرجل الذي يتوهم أنه بذكورته المفرطة ينال درجــة أعلى في سُلَّمِ الإنســـانية، فيما هو يرتكب خطيئة بحق نفسه وبحق نصفه الآخر، خطيئة تكاد تضاهي الخطيئة الأولى الأصلية التي تمثلت بقطف حواء للتفاحة. إذ نقول نصفه الآخر لا نعني أنها ملحقة به، بل مساوية له باعتباره هو أيضاً نصفها الآخر.

نؤمن إيماناً راسخاً بأن مجتمعاتنا لن تنهض من كبوتها ما دام أنها لا تفهم الأنوثة بمعناها الإنساني العميق، ولا تعطي النساء حقوقهن البديهية لا بوصفها مِنَّة أو منحة من أحد، بل لأنها جزء من بداهة الحياة وجوهر المعنى الإنساني. كيف تكون إنسانا إذا كنتَ تعامل المرأة وكأنها نوع من الملكية الخاصة، أو جزء من ميراثك وترْكَتِك؟ المرأة شريكتك من المهد إلى اللحد، وربما أبعد. ولئن توهمتَ حمايتها بظلمك وقمعك لها فأنت مخطئ، بل آثم ومجرم بحق نفسك وبحقها. شراكة الحياة الحقة هي التي تحميها وتحصّنها وتصونها. فالذكورة لا تصير رجولةً بالتسلط والاستبداد بل بالرِّقة والحنوِّ والغيرية والشهامة والمروءة، أما الغلاظة والقسوة والعنف والاستعلاء، كلها لا تصنع رجولة لأنها أقرب لصفات الوحوش لا الأنس.

قلنا الأسبوع الفائت إن العالم تنقصه أنوثة، لأن الأنوثة مكبوتة ومقموعة، والذكورة كما هي اليوم (لا في أصلها وجوهرها) طاغية ومفرطة ومستبدة، ولا تظنن أن الطغاة أسوياء أو سعداء. لذا فإن انتصارنا للأنوثة هو انتصارٌ للإنســـان سواء كان امرأة أو رجلاً، انتصارٌ للحياة. أما ما تمنحه الأنوثة للفن، وللشِّعر على وجه الخصوص فمقال آخر نعود إليه. فلولاها لربما ما كانت القصيدة.