العولمة الرقمية والعالم النامي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٧/أبريل/٢٠١٦ ٠٥:٥٥ ص
العولمة الرقمية والعالم النامي

لورا تايسون وسوزان لوند

بيركلي ــ تدخل العولمة الآن عصراً جديداً لا يتسم بتدفق السلع ورؤوس الأموال عبر الحدود فحسب، بل وأيضاً بتدفق البيانات والمعلومات على نحو متزايد. وربما يبدو الأمر وكأن هذا التحول يحابي الاقتصادات المتقدمة التي تمثل صناعاتها أقصى ما انتهى إليه العلم في توظيف التكنولوجيات الرقمية في الإنتاج والتشغيل. ولكن هل تُترَك البلدان النامية في المؤخرة؟
على مدار عقود من الزمن، بدا أن التنافس على أعمال التصنيع المنخفضة التكلفة على مستوى العالم الطريقة الأكثر تبشيراً بنجاح البلدان ذات الدخل المنخفض في تسلق سلم التنمية. وارتفعت التجارة العالمية في السلع من 13.8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (2 تريليون دولار أميركي) في عام 1985 إلى 26.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (16 تريليون دولار) في عام 2007. وقد فازت الأسواق الناشئة، بحصة متزايدة من التجارة في السلع والتي ارتفعت إلى عنان السماء؛ وبحلول عام 2014، كانت الأسواق الناشئة تستحوذ على أكثر من نصف تدفقات التجارة العالمية.
ولكن منذ الركود العظيم، توقف نمو التجارة العالمية في السلع، وهو ما يرجع في الأساس إلى الطلب الهزيل في اقتصادات العالم الكبرى وهبوط أسعار السلع الأساسية. ولكن تغيرات بنيوية أكثر عمقاً تلعب أيضاً دوراً ملموسا. فالعديد من الشركات تعمل الآن على تبسيط وتقصير سلاسل الإمداد الخاصة بها.
وإذا بلغت التجارة في السلع العالمية بالفعل أوجها نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فسوف تتعاظم الصعوبات التي تواجهها البلدان الفقيرة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا لتحقيق التنمية من خلال التحول إلى ورشة عمل العالَم القادمة. ولكن العولمة ذاتها ليست في تراجع، برغم تباطؤ التجارة العالمية وانخفاض التدفقات المالية عبر الحدود بشكل حاد منذ العام 2007.
ويشير بحث جديد أجراه معهد ماكينزي العالمي إلى أن التدفقات عبر الحدود من السلع والخدمات والتمويل والبشر والبيانات خلال هذه الفترة كانت السبب في زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 10% ــ ما يقرب 7.8 تريلون دولار إضافية في عام 2014 وحده. وكانت تدفقات البيانات تمثل ما يقدر بنحو 2.8 ترليون دولار من هذه المكاسب، الأمر الذي جعلها تفرض تأثيراً أكبر من تأثير التجارة العالمية في السلع ــ وهو اكتشاف لافت للنظر.
يعطل التحول الرقمي كل شيء، من طبيعة تغير ملكية السلع؛ وعالَم الموردين والمستهلكين المحتملين؛ وطريقة التسليم، إلى رأس المال والنطاق المطلوب للعمل على المستوى العالمي. ويعمل التحول الرقمي على توسيع الفرص للمزيد من أشكال الشركات، والأفراد، والبلدان للمشاركة في الاقتصاد العالمي.
في ظاهر الأمر، ربما يبدو التحول إلى العولمة الرقمية وكأنه يعمل ضد البلدان النامية التي لديها مجمعات كبيرة من العمالة المنخفضة التكلفة ولكنها تفتقر إلى البنية الأساسية وأنظمة التعليم الوافية. وتهيمن الاقتصادات المتقدمة على أحدث مؤشرات معهد ماكينزي العالمي للاتصال، والذي يرتب البلدان على أساس التدفقات إلى الداخل والخارج من السلع والخدمات والتمويل والبشر والبيانات نسبة إلى أحجامها وحصصها في كل نوع من التدفقات العالمية. وتتركز هذه التدفقات بشكل غير متناسق بين مجموعة صغيرة من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وسنغافورة، مع وجود ثغرات كبيرة بين البلدان الرائدة والمتأخرة. والصين هي الدولة الوحيدة صاحبة الاقتصاد الناشئ التي حققت مركزاً بين الدول العشر الأوائل على المؤشر.
بيد أن التدفقات المالية تتيح للبلدان النامية العديد من السبل الجديدة للانخراط في الاقتصاد العالمي. فتعمل التكاليف الهامشية القريبة من الصِفر للاتصالات الرقمية والمعاملات على خلق فرص جديدة لإدارة الأعمال عبر الحدود على نطاق واسع. وتساعد منصات مثل علي بابا، وأمازون، وإي باي، وفليبكارت، وراكوتين على تحويل الملايين من المشاريع الصغيرة في مختلف أنحاء العالم إلى شركات مصدرة "صغيرة متعددة الجنسيات".
وعلاوة على ذلك، ليس من الضروري أن تبني كل دولة وادي السليكون لكي تستفيد. فالبلدان الواقعة على المحيط الخارجي لشبكة تدفقات البيانات العالمية من الممكن أن تستفيد أكثر من الدول الواقعة في القلب. ذلك أن الاتصالات الرقمية تعمل على تعزيز نمو الإنتاجية؛ بل ومن الممكن أن تساعد الاقتصادات النامية في التحرك إلى حدود الإنتاجية القصوى من خلال تعريض قطاعات الأعمال لديها للأفكار والبحوث والتكنولوجيات وأفضل الممارسات الإدارية والتنفيذية، ومن خلال بناء قنوات جديدة لخدمة أسواق عالمية كبيرة.
ولكن شبكة الإنترنت لا يمكنها تحقيق مثل هذه التحسينات في الكفاءة والشفافية ما لم تعمل البلدان على تشييد البنية الأساسية الرقمية اللازمة لتوصيل العدد الهائل من سكان العالم غير المتصلين بالإنترنت. ولكن في نهاية 2015، كان نحو 57% من سكان العالم، أو أربعة مليار نسمة، غير متصلين بالإنترنت، وكثيرون من المتصلين لا يستخدمون سوى الهواتف المحمولة الأساسية. وفي العديد من البلدان النامية، يتسم التوصيل بالإنترنت بالبطء الشديدأو التكاليف الباهظة، وهو ما لا يسمح لرواد الأعمال والأفراد بتحقيق القدر الأقصى من الاستفادة من الفرص التجارية والتعليمية العالمية الجديدة.
ومن الأهمية بمكان أيضاً أن تواكب الأنظمة التعليمية الطلب على الطلاقة اللغوية والمهارات الرقمية. ورغم أن 40% من سكان العالم متصلون بالإنترنت، فإن 20% منهم لا زالوا غير قادرين على القراءة والكتابة.
إن العولمة في القرن الحادي والعشرين، والتي يقودها التحول الرقمي والتغيرات السريعة في الميزة التنافسية، من الممكن أن تعطل الصناعات والشركات والمجتمعات المحلية وتتسبب في فقدان الوظائف، بيد أنها في الوقت نفسه تعمل على حفز قدر أعظم من الإنتاجية، وتعزيز تشغيل العمالة في الإجمال، وتوليد مكاسب تشمل الاقتصاد بالكامل. ويتعين على الحكومات أن تنظر في هذه المقايضات بعناية، وأن تعمل على إيجاد سبل جديدة لدعم المتضررين من التدفقات العالمية.
ومن عجيب المفارقات أن ردة الفعل السياسية العنيفة ضد العولمة بدأت تكتسب الزخم في العديد من الأماكن حتى في حين يعمل التحول الرقمي على زيادة الفرص والفوائد الاقتصادية التي تتيحها العولمة.

الرئيسة السابقة لمجلس مستشاري رئيس الولايات المتحدة الاقتصاديين، وأستاذة في كلية هاس لإدارة الأعمال بجامعة كاليفورنيا في بيركلي