زاهي وهبي
كثيرون لن يأسفوا على رحيل العام ٢٠١٥، ملايين البشر خارج منازلهم أو خارج أوطانهم، مئات ألاف الضحايا سقطت وتسقط، مدن وبلدات مدمرة، بلدان برمّتها تحت وطأة الأزمات من فقر وبطالة وانعدام تنمية. تركة ثقيلة تسلمها السنة المنصرمة لتلك التي أقبلت ولا يبدو أنها تحمل الكثير من بشائر الأمل والخلاص، كأن هذا الجزء المنكوب من العالم محكوم باستمرار الحروب والأزمات التي وان توقفت حيناً للاستراحة سرعان ما يعاود اللاعبون الكبار إيقاد نارها وصبّ المزيد من الزيت على إوارها المشتعل.
في أمنيات العام الجديد يختلط الشخصي بالعمومي والفردي بالجماعي ليس لأننا مجتمعات تهوى العمل الجماعي وتعلي من شأنه، بل لأننا لم نحسن حتى اليوم التمييز بين الفرد والجماعة، تلقي الجماعة بثقلها على الفرد، تسلبه أبسط حقوقه وتأخذ منه أغلى ما يملك: حريته. باسم الجماعة تتلاشى الهوامش والعلامات الفارقة، يصير الجميع أشبه بطابور عسكري لا يتميز فيه غير ذوي النجوم، يُلغى الفرد وخصوصيته وضرورة تميزه عن أقرانه، تارة باسم القبيلة والعشيرة والعادات والتقاليد وطوراً باسم الطائفة والمذهب، حيناً باسم الحزب والتيار وأحياناً باسم الجهة أو المنطقة. لا صوت يعلو على صوت الجماعة، مَن يحاول الاختلاف والتميز يصبح مثل البجعة السوداء، علماً أن لا حرية للجماعة بلا حرية للفرد، الفرد هو أساس الجماعة ونواتها الصلبة، متى تحقق الفرد وتحرر تحققت الجماعة وتحررت.
نقصد بتحقق الفرد أن يغدو الانسان ذو قيمة بذاته ولذاته، لا بسبب دينه أو مذهبه أو عرقه أو جنسه أو جنسيته أو منصبه وسواها من سمات وأوصاف وألقاب تسبق اسمه في خانة الأحوال الشخصية أو في خانة الهوية الاجتماعية. يتحقق الفرد حين يكون متمتعاً بحصانته الانسانية، حاصلاً على حقوقه الأساسية التي كفلتها الدساتير وشرائع حقوق الانسان، وحين يتساوى جميع الناس أمام القانون فلا أبناء ست ولا أبناء جارية، ولا أناس بسَمنة وآخرون بزيت، وحين يشعر المرء أنه قادر على قول كل ما يشعر به دون خشية أو انتقام، ساعتها نستطيع القول أن الفرد قد "تحقق" بمعنى أُنجِز.
في الرواية القرآنية الكريمة الله ذاته جلّ وعلا أمهل ابليس الذي عصى وأبى واستكبر، أمهله حتى يوم البعث والحساب. فمن أنت أيها الإنسان حتى تقيم الحدّ وتنزه هذا وتكفّر ذاك؟ مَن خوّلك القيام مقام الخالق ومَن أعطاك الحق كي تمنح صكوك الغفران؟ لا دالة لأحد على أحد الا بما يمليه القانون على الجميع. متى وصلنا الى مرحلة صار فيها هو الحكم، نكون قد بدأنا أولى خطواتنا في المشوار الطويل الصعب الشائك الوعر كي نتحقق فيه أفراداً وجماعات، طبعاً مثل هذا الأمر لا يحدث بسحر ساحر ولا بالأمنيات والنوايا الطيبة. كتبنا الأسبوع الماضي أن التعليم حجر أساس في النهضة المتوخاة، ونضيف اليوم ضرورة مكافحة البطالة وتأمين فرص عمل للشباب كي لا تظل هذه الشريحة المحورية في مهب التيارات والأهواء القاتلة. اذ لا يعقل أن تقنع جائعاً لا يملك قوت يومه بأن الأولوية هي قراءة كتاب، علماً أن الطريق الى الرغيف تمر بالكتاب أو عبر الكتاب. سهلٌ القول "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"، لكن الصعب هو كيفية إقناع الجياع بهذه المقولة. الوعي أهم المفاتيح التي يملكها الانسان لفتح أبواب الحياة الموصدة. من هنا قلنا إن الطريق الى الرغيف تمر بالكتاب. تسليح الشباب بالوعي والمعرفة والثقافة العامة لا ينقذهم فقط من وحش التطرّف والتزمت بل أيضاً من شبح الفقر والجوع والبطالة، وكم من الضروري والملّح والواجب إقناع أجيالنا الجديدة بضرورة المعرفة والزاميتها، خصوصاً وأن التكنولوجيا الحديثة سهّلت الأمور كثيراً ووسّعت الآفاق، ولعل السؤال الذي نراه واجباً هو كيف السبيل الى جعل هذه التكنولوجيا المتطورة والميديا المفتوحة أداة وعي ومعرفة وتثقف عِوَض بقائها أداة شتم وقدح وذمّ أو حتى مجرد وسيلة تواصل اجتماعي؟
في وداع عام واستقبال آخر تبدو أمنياتنا نحن العرب وكأنها مستنسخة عاماً تلو عام، أن تتوقف الحروب وتنتهي الأزمات الطاحنة ويعم الأمن والأمان والرخاء والازدهار والعدالة الاجتماعية، وأن تعود فلسطين لأهلها حرةً مستقلة، لكن للأسف بدل النكبة الواحدة في فلسطين صار لنا نكبات متعددة، في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال، وحيث لا حروب ثمة أزمات كامنة وجمر تحت الرماد.
لو كانت أوضاع بلادنا طبيعية لكان ثمة هموم عامة لا ينبغي على المواطن أن يشغل باله فيها، الأمن والتعليم والطبابة وفرص العمل وضمان الشيخوخة وسواها الكثير الكثير كلها من أبسط حقوق المواطن وأُولى مسؤوليات الدولة.
المأساة تقع حين لاتقوم الدولة بما عليها القيام به، ساعتها تتحول الحقوق مجرد أمنيات نتبادلها في المناسبات والأعياد الرسمية!