فهمى هويدى
الحوار التليفزيونى المهم الذى أجرى مع الناشط السياسى حمدين صباحى كان كلمة حق لا ريب، والأرجح أنه أريد بها شىء آخر.
(١)
أتحدث عن الحوار الذى أجرى مساء يوم الأربعاء الفائت (٦/١) مع الرجل الذى هز بمثابة مفاجأة الأسبوع الأول من العام الجديد، حيث لا أعرف قناة تليفزيونية مصرية مكنت أى ناشط سياسى مصرى من أن يتكلم بمثل تلك الصراحة التى تحدث بها. ذلك أنه لم يتجاوز سقف السيناريو المعتمد فحسب، ولكنه تجاوز أيضا بعض الخطوط الحمراء، التى لم يجرؤ أحد على تخطيها فى الإعلام المباح طوال العشرين شهرا الفائتة. ورغم أن النور قطع أثناء الحوار فى «مصادفة» مستغربة، إلا أنه أتيح له أن يستمر بتلك الوتيرة طوال ثلاث ساعات.
حرص القيادى فى التيار الشعبى على أن يؤكد طول الوقت أنه ينطلق من مبادئ ثورة ٢٥ يناير وأنه يعتبر ما جرى فى ٣٠ يونيو التى شارك فيها موجة أخرى للثورة الأولى، كما حرص على أن يثبت احترامه للرئيس عبدالفتاح السيسى وحرصه على أن ينجح فى المهمة التى كلفه الشعب بها. أى أنه أراد أن يسجل أنه يتكلم من داخل النظام وليس من خارجه، ومن موقع الشريك وليس المعارض، وتحت هذه المظلة سجل عديدا من المواقف، استوقفنى منها ما يلى:
< بعد أن حيا السلطة على ما حققته من إنجازات، ذكر أن أهداف ثوة يناير التى تمثلت فى شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية لم يتحقق منها شىء، وقال فى هذا الصدد إنه لا توجد رؤية واضحة للمستقبل تنبئ بالاتجاه صوب تحقيق تلك الأهداف.
< انتقد عودة سياسات وأشخاص النظام الذى قامت ضده الثورة. كما انتقد تعيين بعض خصوم الثورة أعضاء فى البرلمان.
< أجرى تمييزا بين موجة الثورة فى ٣٠ يونيو وبين الخطوات التى تتابعت وتبلورت بعد الثالث من يوليو، وبدا منحازا للأولى وناقدا للثانية. وكان نقده أشد لشيوع المظالم من خلال ممارسات الأجهزة الأمنية حتى إنه استخدم فى ذلك مصطلح «إرهاب الدولة».
< واصل انتقاداته لانتهاكات حقوق الإنسان التى تعرض لها شباب الثورة الذين حاولوا التعبير عن أنفسهم بالطرق السلمية، إضافة إلى حملات القمع التى تعرضت لها منظمات المجتمع المدنى.
< تكلم عن جماعة الإخوان المسلمين فلم يستخدم مصطلح «الإرهابية» المقرر على وسائل الإعلام، وفرق بين الجماعة والحزب وبين الأعضاء السلميين أو المتعاطفين، واعتبر أن الجماعة فشلت فى إدارة الدولة وكان حظرها السياسى ضروريا، كما أن فض اعتصام رابعة كان بدوره ضروريا ولكن ليس بالأسلوب الذى تم به.
< قرر أن كل من حمل سلاحا أو مارس عنفا من الإخوان أو غيرهم ينبغى أن ينزل عليه سيف القانون بكل حزم، ولكن الأعضاء السلميين أو المتعاطفين ينبغى أن يعاملوا كمواطنين لهم الحق فى التعبير والحق فى الكرامة والحياة. وحرمانهم من التنظيم لا ينبغى أن يسقط عنهم حقهم فى المواطنة.
< اعتبر أن الأسلوب الذى تم التعامل به مع الإخوان من أخطاء جهاز الأمن فى مصر، حيث ألقى القبض على كثيرين بناء على الشبهات، وتعرض آخرون للمطاردات والترويع وقطع الأرزاق إضافة إلى تعذيبهم فى السجون وحرمانهم من الدواء، حتى الدماء التى أريقت فى فض اعتصام رابعة قال إنها دم حرام لأن دماء كل مصرى حرام. ووصف تلك الممارسات بأنها مما ترفضه الكرامة والنفس الأبية.
< قال إنه آن الأوان للكف عن تلك الانتهاكات وإطلاق صراح الأبرياء، لأن الدولة القوية يجب أن تكون واثقة من نفسها ولا ينبغى أن تلجأ إلى مثل تلك الأساليب التعسفية.(٢)
صباح يوم الجمعة ٨/١ نوهت جريدة «الشروق» إلى الحديث على رأس صفحتها الأولى، إلا أنها وازنت الموقف بصورة لفتت الانتباه. إذ قسمت «المانشيت» قسمين. كان أحدهما كالتالى: «صباحى: أنتمى لمعارضة وطنية لا تهدم ولا تطبِّل. وإلى جواره مباشرة عنوان آخر لأحد النواب الجدد فى البرلمان قال فيه: معارضة الرئيس ليست من الوطنية. وسواء تم ذلك مصادفة أو على سبيل العمد، فإن تقسيم المانشيت بين المتحدثين بدا وكأنه محاولة ذكية من الجريدة لإمساك العصا من المنتصف، والإعلان عن أنها ليست منحازة لأى منهما، ولكن صدرها متسع للرأيين.
هذا الحذر كان مبررا لأن كلام حمدين كان بمثابة حجر كبير ألقى فى بحيرتنا الراكدة والملوثة. خصوصا حديثه عن الإخوان الذى كان بمثابة صدمة لكثيرين ممن اعتبروا «شيطنة» الجميع بغير تمييز موقفا ثابتا وخطا أحمر لا يجوز تخطيه تحت أى ظرف لذلك فإن فتح المجال لإطلاق هذا الكلام بدا أمرا محيرا ومستغربا. أسهم فى الحيرة أن حوارا من هذا القبيل لا يمكن أن يتم دون ترتيب مسبق يشمل الموافقة على المتحدث والموضوع والمحاور. لذلك فإن السؤال الكبير الذى شغل المهتمين بالشأن العام فى مصر انصب على محاولة تحرى دوافع ترتيب تلك الحلقة من البرنامج.
التفسير الذى بدا راجحا فى تعليقات شبكة التواصل الاجتماعى على الأقل أن الأمر وثيق الصلة بقلق السلطة والأجهزة مما يمكن أن يحدث فى الذكرى الخامسة للثورة فى ٢٥ يناير، خصوصا من جانب شباب الثورة الذين تنادى بعضهم للتظاهر فى تلك المناسبة، وارتفعت أصوات بعض الإخوان مؤيدة لتلك الدعوة. وهو القلق الذى عبرت عنه الأجهزة الأمنية بإلقاء القبض على بعض النشطاء من بين شباب حركة «كفاية» و«٦ أبريل» إضافة إلى آخرين من عناصر الإخوان. فى مسار مواز صدرت إشارات أخرى فى اتجاه وصفه بعض الكتاب بأنه «مصالحة مع الشباب»، منها تبنى رئاسة الجمهورية لمبادرة أطلق عليها «برنامج تأهيل الشاب للقيادة»، وأعلن الرئيس أن العام الجديد سيكون عام الشباب. كما نشرت الصحف أنه سيتم إطلاق سراح مائة شاب من المحبوسين خلال أيام قليلة. حتى حكم محكمة النقض بتأييد سجن مبارك وولديه فى قضية القصور الرئاسية (تزوير وإهدار للمال العام) فسر بأنه محاولة لطمأنة الشباب إلى إدانته وزوال عهده.
من وجهة نظر المخطط السياسى فإنه فى المناخ الساعى إلى احتواء الشباب وامتصاص غضبهم لا تخلو من وجاهة فكرة استضافة رمز سياسى متعاون مع النظام وله قاعدته الشبابية وميوله الناصرية كى يقوم بدور فى هذا الإطار.. فيفتح قلبه ويوجه ما يعن له من انتقادات للوضع القائم، ثم ينهى كلامه بدعوة الشباب إلى عدم التظاهر يوم ٢٥ يناير بدعوى أنه لا مصلحة للوطن أو الثورة فى ذلك. وبخطوة من ذاك القبيل يتم اصطياد عصفورين بحجر واحد. إذ تتوافر اللقطة الديمقراطية والفضفضة ويتحقق التنفيس الذى يمتص الغضب، وفى الوقت ذاته توجه الرسالة الأهم المتمثلة فى نصح الشباب بعدم المشاركة فى المظاهرات التى تزعج السلطات وتتحسب لها.
(٣)
الشاهد أن دوافع الكلام وخلفياته احتلت حيزا من الاهتمام والتأويل أكبر من الكلام ذاته الذى فاجأ كثيرين بقدر ما أثار غضب آخرين واستنفرهم. ورغم أن حمدين تكلم بدرجة عالية من الكياسة والحذر بدا فيها ناصحا مخلصا، فإنه لم يسلم من الغمز الذى اتهمه بأنه «الشريك المخالف» القادم من عالم النسيان، الذى ظهر فجأة لكى يطفئ أنوار الفرح. ونسب إليه آخرون أنه يزايد على الجميع ويشكك فى السلطة الوطنية التى لم تتوان عن الدفاع عن البلد فى الظروف الصعبة التى تمر بها، ودفع ابناؤها دماءهم وحياتهم ثمنا لذلك. واكتفى الأهرام الذى تجاهل كلام صباحى بنشر تقرير ناقد تحت عنوان: «حماة الوطن» (الحزب) يستنكر تصريحات صباحى، حيث ذكر متحدث باسم الحزب ان كلامه ضار بمصلحة الوطن... إلخ. وكان ذلك مقدورا عليه لأنه ظل فى حدود الغمز والتراشق، والتجريح الشخصى. إلا أن آخرين ذهبوا إلى أبعد، فاتهم أحدهم صباحى بالتآمر على الدولة. وقرأت على شبكة التواصل الاجتماعى أن نيابة أمن الدولة تلقت بلاغا اتهم فيه الرجل بالتواطؤ ضد مصر وتهديد الأمن القومى. وإذا صح الخبر فإن مصير البلاغ ستكون له دلالته، فإهماله له مغزاه واستدعاء حمدين والتحقيق معه ستكون له دلالة أخرى. مع ذلك فلم يخل الفضاء الإعلامى من كتابات تجاوبت مع كلام الرجل وأيدت مواقفه التى عبر عنها. ومن الذين امتدحوه من أيد مواقفه التى عبر عنها باستثناء موقفه من الإخوان.
جدير بالذكر فى هذا الصدد أن كلام حمدين صباحى عن الإخوان لم يذهب بعيدا عما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حواره مع هيئة الإذاعة البريطانية (بمناسبة زيارته للندن فى شهر نوفمبر من العام الماضى ٢٠١٥). إذ سئل الرئيس عما إذا كانت جماعة الإخوان يمكن ان تلعب دورا مرة أخرى فى مستقبل مصر، فكان رده إن «الإخوان جزء من مصر، والشعب المصرى يجب أن يقرر أى دور يمكن أن يلعبوه فى المستقبل». أى أنه اعترف لهم فى الإذاعة البريطانية بحقهم فى المواطنة، وهو ذات المعنى الذى ركز عليه صباحى فى حديثه، لكنه أغضب البعض لأنه قاله على إحدى القنوات التى تخاطب الجمهور المصرى.
(٤)
باستثناء الغمز والاتهامات والتجاوب المتحفظ فإن الملفات المهمة التى أثيرت فى الحوار الذى أجراه الإعلامى وائل الإبراشى، أغلقت بعد البث ولم تستدع نقاشا يذكر، ساعد على ذلك أن الرأى العام شغل بافتتاح مجلس النواب والجدل الصاخب الذى صاحبه تشكيل هيئة مكتبه، وترددت أصداؤه فى جلسته الافتتاحية، وهذا الذى أوردته يمثل جزءا من الإجابة عن السؤال: هل السماح ببث الحوار الذى استغرق ثلاث ساعات دلالة على تغيير ما فى الاتجاه السياسى؟. وردى على السؤال أن البث عمل سياسى بامتياز بأكثر مما هو مهنى. ومن ثم فله دلالته لا ريب. لكن تلك الدلالة تظل فى حدود «التاكتيك» والمرحلية، ولا علاقة له بالاستراتيجية. وما عرضته بخصوص الصلة بين البث وبين ذكرى ٢٥ يناير يعزز ذلك الانطباع. بكلام آخر فإن العقل الأمنى الذى يحرك استراتيجية التعامل مع الأوضاع الداخلية لم يطرأ عليه أى تغيير أو تطوير. تدل على ذلك المداهمات التى تمت ضد بعض منظمات المجتمع المدنى قبل يومين من بث الحوار. وتشهد به تقارير المنظمات الحقوقية عن احتجاز النشطاء ومعاملة المسجونين السياسيين. إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أن حوار حمدين صباحى كان إجراء وقائيا لمواجهة ظرف مؤقت، ولم تكن له دلالة سياسية أبعد من ذلك. إن شئت فقل إنه انفراج مؤقت فى الأفق السياسى المسدود. مع ذلك يظل ما قاله الرجل كلمة حق أعلنت على الملأ، وإن أريد بها شىء آخر. وهو ما يعنى أنها تحسب له وليس لنا ــ لذا لزم التنويه، كى لا يحمل الكلام بأكثر مما يحتمل.