هيئة حماية المستهلك ..والتغييرات الأخيرة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٧/أغسطس/٢٠٢٠ ٢٠:١٨ م
هيئة حماية المستهلك ..والتغييرات الأخيرة

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهير

الأمانة والإخلاص من الصفات النادرة في هذا الزمن، ويعود ذلك إلى الأنانية وحب الذات لدى معظمنا، حتى ولو كان ذلك على حساب القيم والأخلاق الدينية الخالدة. وقد عانت بلدنا من الاحتكار التجاري الذي أجاز لعدد قليل من التجار التحكم والسيطرة على قوت المواطن ، وما يدخل في جيبه من النقود، وإن كانت قليلة ومتواضعة، دون رقيب أو حسيب، وكان ذلك بشكل رسمي، على الرغم من الشعار الذي يتم تداوله وتسويقه في الإعلام؛ بأن التجارة حرة وأن البلد يطبق ما يعرف بمبدأ السوق الحرة في التجارة.
وفي مطلع العقد الفائت أصدر السلطان قابوس - طيب الله ثراه – المرسوم السلطاني رقم (26/2011) بإنشاء الهيئة العامة لحماية المستهلك، وأعطيت لها كامل الصلاحيات اللازمة لكسر الاحتكار، ومنع جشع التجار، الذين كانوا يتحكمون بالسلع الأساسية والكماليات باسم ما يعرف بالوكيل الحصري، الذي يمنع الآخرين من استيراد نفس السلعة، أو البضاعة المسجلة باسم التاجر الفلاني، وله الحق أن يبيعها وفق هواه.
ومن أهم أهداف الهيئة؛ "العمل على تجسيد مبادئ المنافسة العادلة ومكافحة الاحتكار، وكذلك محاربة الاحتيال والتلاعب ؛ الذي يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الوطني في عُمان".
بالفعل استبشر الجميع خيرا بهذا الصرح الذي انضم إليه كوكبة من أبناء هذا الوطن المخلصين لوطنهم وسلطانهم، إذ عملوا بمهنية عالية، وجهود لم نرها من قبل في أي مؤسسة خدمية تنتمي إلى القطاع المدني في هذا البلد العزيز . وتوالت إنجازات هذه الهيئة الجديدة على مختلف الأصعدة، ليس فقط في منع الاحتكار ، بل في حماية المجتمع العماني من الغش والتحايل على المواطنين البسطاء. ولعلنا نتذكر جميعا جريمة الغش التجاري، إذ تم ضبط أكثر من مليون وثمانمائة ألف سلعة من حلويات الأطفال منتهية الصلاحية، والتي تم ضبطها في الباطنة. كذلك ضبط الأرز المغشوش في بركاء. وهناك قائمة طويلة بمختلف السلع والبضائع الاستهلاكية التي ضبطها العاملون في هذه المؤسسة الوطنية الرائدة في خدمة الوطن والمواطن. وقد أحيلت هذه الجرائم إلى الادعاء العام، ثم قال القضاء العماني كلمته في ذلك؛ لكي يتم ردع هؤلاء الذين يجمعون المال بأي طريقة حتى على حساب أرواح الأبرياء.
كما فازت الهيئة التي هي محل فخر من المواطنين والمقيمين بالعديد من الجوائز الدولية؛ منها جائزة أفضل خدمة حكومية عبر الهاتف المحمول على المستوى العربي، كما توجت حماية المستهلك ب "جائزة الرؤية الاقتصادية" للعام الماضي لأفضل الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة؛ تكريما لما قدمته من إنجازات في مجال تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني في السلطنة.
وتعد وكالات السيارات والمعدات الثقيلة وقطع غيارها، والأجهزة الالكترونية بأنواعها والأدوية، والسلع الاستهلاكية الأساسية من أهم أنواع التجارة المحتكرة لبعض التجار قبل 2011م. وتكمن المشكلة الحقيقية هنا في وجود بعض الوزراء المتنفذين في الحكومة من الذين يمارسون التجارة بالإضافة إلى العمل الحكومي، إذ تتضارب مصالح هؤلاء المسؤولين باختصاصات ومهام هيئة حماية المستهلك، التي أراد لها قائد هذا البلد أن تعمل على فتح أبواب السلطنة للاستيراد من الخارج في إطار المنافسة الشريفة في أسعار السلع والمواد الغذائية وغيرها من الأنشطة التجارية الأخرى، وذلك عن طريق تطبيق المبدأ المعروف "لا ضرر ولا ضرار".
ولعلنا نتذكر جميعا عام 2014 عندما اتخذ مجلس الوزراء قراره المشهور المتعلق بحصر اختصاصات هيئة حماية المستهلك في مراقبة 23 سلعة فقط، بدلا من آلاف السلع التي كانت تراقب من قبل المفتشين والمختصين ، ولكن كانت هناك ردود أفعال قوية على القرار من الرأي العام العماني، الذي طالب بإيقاف هذا القرار . فقد شهدت الساحة العمانية سجالا عبر وسائل الإعلام الرسمية التي تدافع عن القرار من جانب ؛ ورواد وسائل التواصل الاجتماعي الذين عبروا عن وجهات نظرهم من خلال الوسم المعارض للقرار من جانب آخر . إذ عجت منصة "تويتر" خلال يومي 16 - 17 يونيو 2014 بعشرات آلالاف من التغريدات التي تناشد السلطان بوقف القرار . وبالفعل استطاع الرأي العام العماني والهيئة العامة لحماية المستهلك؛ كسب هذه الجولة في أعقاب توجيهات السلطان الراحل بتوقيف العمل بقرار الحكومة في هذا الشأن.
وبعد هذا الحراك الوطني المتناغم مع هذه المؤسسة ومنتسبيها، تابعت مثل غيري في الأسبوع الماضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي رسائل الإشادة والثناء من الجمهور العماني بكل أطيافه ، لرئيس هيئة حماية المستهلك السابق الذي قاد هذه المؤسسة الناجحة لأكثر من 9 سنوات، فقد كانت تلك العبارات مؤثرة ومعبرة عن الاعتراف بالجميل، لهذا الفارس بعد أن ترجل عن صهوة جواده، ووضع بصمة مضيئة في سجل العمل الوطني. إذ عمل كل ما يستطيع لخدمة هذا الوطن الغالي وسلطانه المفدى.
يجب الاعتراف بأن الهيئة تملك فريقا متكاملا، وقاعدة عريضة من الكوادر الوطنية المشهود لها بالمثابرة والدقة والإخلاص في العمل. فمع مرور الأيام أصبح عمل هذه المؤسسة الوطنية قائما على منهجية واضحة المعالم، وسياسة حكيمة يدركها وينفذها كل الأفراد المنوط بهم العمل الرقابي الذي يتميز بالمهنية العالية، فالرئيس السابق للهيئة يدرك أنه يوما ما راحل عن المكان، وبالتالي مكن الجميع من المشاركة في صنع القرار، والعمل ضمن الفريق الميداني المختص، دون الرجوع للرئاسة أو ما يعرف بأعلى هرم في السلطة، كما هو الحال في معظم الوزارات، التي يتوقف فيها العمل عند ذهاب المسؤول الكبير خارج المؤسسة لأي سبب كان .
ومن حسن الطالع أن يتولى رئاسة هيئة حماية المستهلك في هذه المرحلة، شخصية مشهود لها بالكفاءة والتميز لكونه كان رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى، هذا المجلس الذي يعد البوصلة التي ترصد احتياجات المواطن، وتقيس نبض الشارع العماني . فهو خير خلف لخير سلف بإذن الله .
لقد كنت أسال نفسي سؤالا محيرا: كم من وزير ووكيل ومدير عام ترك منصبه بهدوء في الفترة الفائتة، دون رد فعل إيجابي يذكر له من الرأي العام ، بل وحتى من الموظفين العاملين تحت رئاسة هذا المسؤول الكبير ، الذي يظن نفسه سوف يتخلد في المنصب ، وأساء استخدام سلطته مع من حوله، ولم تذرف الدموع عليه؛ لكونه مستبد ويفتقد إلى مواصفات القيادة، ولم يحسن إلى من حوله من الناس.
لقد جرت العادة أن المسؤولين الكبار في العالم العربي يختفون عن الأنظار بعد العزل من المنصب، وذلك بسبب الخوف من الناس الذين قد يشمتون بمن ظلمهم ، بينما يمارس رئيس الدولة، او رئيس الوزراء الذي ترك منصبه في أوروبا وأميركا حياته العامة، فتجده مع عامة الناس في القهوة والممشى، وكذلك يأخذ مكانه في الانتظار في طابور شراء الخبز .
وحول النزاهة ومنع تضارب المصالح واستغلال الوظيفة الحكومية، أتذكر أجمل ما كتب حول هذا الموضوع الهام. ففي عقد السبعينيات من القرن الفائت تعين ابن شقيق الملك أميرا لإحدى المناطق في ذلك البلد العربي الشقيق ، وبعد عدة أشهر من تولي الأمير مهامه انشغل بالتجارة، إذ أصبح وكيلا لواحدة من أشهر وكالات السيارات في العالم، فإذا بعمه الملك يكتب له الرسالة التالية " اختر بين الإمارة والتجارة.. لا يمكن لكم الجمع بين الوظيفتين، فإن ذلك مفسدة.. وأضاف اقترح لكم ترك فرصة لأبناء المنطقة ؛ ليتولى أحدهم وكالة السيارات بدلا منك".
وفي الختام أقول لقد أثبتت هيئة حماية المستهلك نجاحا منقطع النظير، واستطاعت في سنوات قليلة انقاذ أرواح الأبرياء من السموم، والغش، وكسر الاحتكار التجاري ؛ مما أهلها لكسب القلوب والعقول معا. عليه نتطلع إلى إعادة الصلاحيات والاختصاصات المتعلقة بالمنافسة ومنع الاحتكار إليها مجددا، وذلك بدلا من المركز الذي أسسته الحكومة قبل عامين.