فضح الشعبويه في أميركا

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/أبريل/٢٠١٦ ٠٥:٠٥ ص
فضح  الشعبويه في أميركا

جيه. برادفورد ديلونج

ليس بالضرورة أن يتمتع المرء بحاسة سمع غير عادية لكي يميز أصوات صفارات استدعاء الكلاب المستخدمة أثناء الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة هذا العام. فإذا أصغيت السمع ولو لفترة وجيزة سوف تفهم أن المكسيكيين والصينيين يعملون بالتواطؤ مع وال ستريت على إبرام صفقات تجارية رديئة من شأنها أن تسلب العمال الأميركيين وظائفهم المشروعة، وأن المسلمين يريدون تفجير الجميع.
الواقع أن كل هذا الترويج للخوف أشد ترويعا من المعتاد في عام الانتخابات. وهو أمر مخيف للناس في الدول الأجنبية، الذين لن يستخلصوا منه إلا أن الناخبين في القوة العظمى الوحيدة في العالم أصبحوا غير متوازنين ومضطربي العقل إلى حد خطير. وهو أيضا مخيف بالنسبة للأميركيين الذين كانوا حتى وقت قريب يعتقدون أنهم ــ أو ربما كانوا يأملون أنهم ــ يعيشون في جمهورية تقوم على التقاليد التي رسخها جورج واشنطن، وأبراهام لينكولن، وتيدي وفرانكلين روزفلت.
ولكن الأمر الأكثر إثارة للانزعاج والحيرة هو الواقع السياسي الذي يعكسه هذا الخطاب. فلا يوجد وجه للمقارنة بين انتقاد المرشح الرئاسي الديمقراطي بيرني ساندرز لليبرالية الجديدة على أساس سياسي والثرثرة المتبجحة المتنافرة الصادرة عن دونالد ترامب أو تِد كروز على الجانب الجمهوري. ولكن برغم هذا، نستطيع أن نميز على اليمين واليسار سردا مشتركا ناشئا ــ سردا يسعى إلى تفسير لماذا ظلت دخول الطبقتين العاملة والمتوسطة في أميركا راكدة على مدار الجيل الماضي.
من المؤسف أن هذا السرد، إذا استُخدِم كأساس لوضع السياسات، لن تستفيد منه لا الولايات المتحدة ولا بقية العالم؛ والأسوأ من ذلك أن هذا السرد مر حتى الآن دون أن يتصدى له أحد بجدية. كان كبار الساسة والمفكرين الجمهوريين زاهدين في تثقيف الشعب الأميركي حول حقائق السياسة الاقتصادية. وكانت المرشحة الديمقراطية المتقدمة في السباق هيلاري كلينتون مشغولة بمحاولة درء الهجمات التي يشنها ساندرز ضدها.
في عموم الأمر، يتلخص السرد في عبارات من قبيل: كانت أجور الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة في أميركا راكدة لأن مؤسسات وال ستريت ضغطت على الشركات لحملها على الاستعانة بمصادر خارجية للقيام بوظائفها القيمة التي شكلت قاعدة التصنيع في أميركا، أولا لصالح العمال المكسيكيين من ذوي الأجور المنخفضة ثم لصالح الصينيين. وعلاوة على ذلك، كان ذلك جهداً مشتركاً من قِبَل الحزبين اللذين توحدا وراء إلغاء القيود التنظيمية المالية والاتفاقات التجارية التي قوضت الاقتصاد الأميركي. فأولا، كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) سبباً في تصدير وظائف التصنيع العالية الجودة إلى المكسيك. ثم أقامت الولايات المتحدة علاقات تجارية طبيعية دائمة مع الصين ورفضت توجيه الاتهام إلى حكومتها باعتبارها متلاعبة بالعملة.
والسبب وراء خطأ هذا السرد بسيط. فهناك أسباب وجيهة تفسر تبني الولايات المتحدة للسياسات التي شجعت الدول الأكثر فقراً على السعي إلى تحقيق النمو السريع من خلال التصنيع بغرض التصدير. ففي مساعدة المكسيك والصين وغيرهما من الدول النامية في تحقيق النمو، تكسب الولايات المتحدة شركاء تجاريين أكثر ثراء. هذا فضلاً عن حجة قوية مفادها أن الأمن الوطني الأميركي سوف يتحسن إذا تعلم تلامذة المدارس في مختلف أنحاء العالم بعد خمسين عاما من الآن كيف ساعدت أميركا دولهم في تحقيق الازدهار والرواج بدلاً من محاولة الإبقاء عليها فقيرة قدر الإمكان لأطول فترة ممكنة.
لم تكن العولمة هي التي تسببت في ركود الدخول. فالتجارة مع دول مثل الصين والمكسيك ليست أكثر من عامل واحد بين عوامل كثيرة تؤثر على توزيع الدخل في الولايات المتحدة، وهي ليست بأي حال أكثر هذه العوامل أهمية. والسبب وراء ركود الدخول هو أن الساسة الأميركيين فشلوا في تنفيذ السياسات اللازمة لإدارة آثار العولمة.
وكما نزعم أنا وستيف كوهين في كتابنا "اقتصاد متماسك"، تتطلب إدارة الاقتصاد الكلي اضطلاع الحكومة بالمهمة التي كانت تقوم بها دائما قبل عام 1980: تغليب الحس العملي في تبني السياسات الداعمة للنمو العادل.
وهناك أيضاً من الأسباب الوجيهة ما دفع الولايات المتحدة إلى التخلص من الصناعات التي كانت تتطلب أجوراً منخفضة لكي يتسنى لها أن تنافس عالميا. ولكن لم يكن لدى الولايات المتحدة أية أسباب وجيهة للتخلص من الصناعات التي أصبحت "محركات مهمة للتكنولوجيا". كما لم يكن لديها أية أسباب وجيهة لكثير من القرارات الرديئة الأخرى، مثل السماح للقطاع المالي بتحقيق الربح من خلال إقناع المستثمرين بتحمل مخاطر ما كان ينبغي لهم أن يتحملوها والسماح لمقدمي الخدمات الصحية بالتربح من الإدارة على حساب رعاية وعلاج المرضى. وتشمل القرارات السيئة الأخرى اعتقال 2% من شباب البلاد وافتراض أن المشاكل الاقتصادية في أميركا يمكن حلها إذا تمكن الأثرياء من الاحتفاظ بقدر أكبر من أموالهم.
ليس من الصعب أن نرى أين تكمن المسؤولية عن الخطأ. فكما يشير مارك كليمان من معهد مارون في جامعة نيويورك، "كانت معارضة الحزب الجمهوري الإيديولوجية الجامدة المتشددة لفرض الضرائب على الأثرياء سببا على المستوى العملي في تدمير الأساس النظري للاعتقاد بأن التجارة الحرة تعود بالفوائد على الجميع". فمن الصعب أن تسوق الحجج لصالح إعادة توزيع فوائد العولمة ما دمت تعتقد أن السوق توجه المكاسب لأولئك الذين يستحقونها. وليس من الوارد أن تسعى إلى تخفيف التأثيرات المؤلمة المترتبة على العولمة إن كنت تعتقد أن برامج التأمين الاجتماعي تحول المستفيدين منها إلى "آخذين" خاملين.
إن المسؤولية عن الوعكة التي تعاني منها أميركا لا تقع على عاتق العولمة، أو تكتيكات التفاوض الهزيلة، أو العمال المكسيكيين من ذوي الأجور المنخفضة، أو الصينيين الذين يتسمون بالبراعة المفرطة. بل تقع المسؤولية في واقع الأمر على عاتق الساسة الذين يروجون للإيديولوجية وليس المذهب العملي ــ وبالتالي تقع على عاتق المواطنين الذين انتخبوا هؤلاء الساسة، فضلا عن أولئك الذين لا يكلفون أنفسهم عناء الإدلاء بأصواتهم على الإطلاق.

أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.