نجا من الاغتيال فأصبح من أشهر حكام عُمان

بلادنا الجمعة ١٦/أكتوبر/٢٠٢٠ ٢٠:٥٤ م
نجا من الاغتيال فأصبح من أشهر حكام عُمان

إعداد : نصر البوسعيدي

حينما دب الصراع المحزن على السلطة بين أفراد أسرة اليعاربة في نهايات حكم دولتهم، بعدما كانت عمان بأوج قوتها وخاصة حينما استطاع الإمام ناصر بن مرشد اليعربي توحيد البلاد بعد شتات، ومن ثم أكمل المسيرة من بعده أئمة اليعاربة بطرد المستعمر البرتغالي من سواحل عمان والهند وشرق إفريقيا فارضين احترامهم وثقة كل العمانيين لهم وكذلك العالم الذي كان يخشى كثيرا قوة الأسطول العماني في عهدهم والذي تسيّد الخليج وخطوط التجارة العالمية في الشق الآسيوي والإفريقي لعدة قرون، دخلت عمان في نهاية دولتهم بنفق مظلم نتيجة انقسامهم مرة أخرى بين مؤيد ومعارض في الصراع على السلطة التي كانت مثار نزاع بين أكثر من اسم لتنشب الحرب الأهلية والاغتيالات التي كانت وبالا على أهل عمان حينها.

في تلك الفترة المضطربة جدا وحينما كانت بعض الأمور بيد الإمام الصغير سيف بن سلطان الثاني الذي ينافسه أقرانه على الحكم، فكر جليا في القضاء على كل من يتفق عليه أهل عمان من ولاته وقادته لانعدام ثقته بمن حوله، فتوجهت أنظاره بشكل كبير إلى واليه بصحار السيد أحمد بن سعيد بن أحمد بن محمد البوسعيدي وتنامي شعبيته هناك، فبدأ بالخشية منه وخاصة وهو يعلم أن الكثير من أهل عمان بدأ ينفر من الصراع السياسي والحرب الأهلية التي تسبب بها أفراد العائلة اليعربية بانقسامهم بين مؤيد للسلطة بين هذا أو ذاك.

فخطط سيف بن سلطان وقبل سقوط حكمه نهائيا بأن يقوم بعملية استدراج لأحمد بن سعيد لاغتياله في مسقط، فدبر له الكمين وبعث له بأن يأتيه فورا لحاجته بلقائه بما يتعلق بشؤون البلاد، فلبى أحمد النداء وركب راحلته قادما من صحار ومتوجها إلى مسقط، ولأن رزيق جد المؤرخ العماني المعروف حميد بن محمد بن رزيق كان يعمل مع سيف بن سلطان وعلم بالمكيدة التي تم وضعها لاغتيال هذا الوالي الشاب، حاول بكل الطرق لقاءه ومحاولة تحذيره، فوضع أتباعه لتقفي حضور أحمد بن سعيد إلى مسقط قبل أن يصل في حضرة من أراد به السوء، وبالفعل استطاع رزيق لقاء هذا الشاب قبل وصوله لمقر سيف بن سلطان الثاني، وقال له: «ارجع سريعا إلى صحار قبل أن يعلم بوصولك إلى مسقط أو يراك أحد عبيده فإنه يريد أن يصنع بك كيت وكيت».

فقال أحمد بن سعيد: «لعله يريد أن يعزلني فقط من ولاية صحار».
فرد عليه رزيق: «أجل ويريد كذلك قتلك فارجع إلى صحار فإني لك من الناصحين فإن النفس تأبى العطب وتقلى الشجب».
وثق أحمد كثيرا بكلام الشيخ رزيق لأنه يعلم تماما بأنه يعمل مع سيده سيف ويدرك تماما خطة الاغتيال، فعاد مسرعا خائفا من محاولة قتله بأي لحظة هو ومساعده مسعد، حتى وصل لصحار وتحصن بقلعتها وبين أهلها.
وحينما علم سيف بن سلطان اليعربي بوصول أحمد إلى مسقط ورجوعه مسرعا إلى صحار دون إلقاء القبض عليه وتنفيذ عملية الاغتيال المخطط لها عاقب أتباعه وأخذ يتحقق من الجميع ومن الذي قام بتحذير واليه أحمد بن سعيد، وبعد عمليات تحقيق توصلوا إلى أن رزيق عامله هو آخر من لوحظ مع أحمد بن سعيد، فاستجوبه سيف وأغلظ بحقه في الكلام وقال له: «ما حملك على الذي فعلت، فإنك أنت الذي نفرت أحمد بن سعيد بنجواك إليه، فأين توجه بعد ما ناجيته وماذا قلت له وقال لك؟ فقد صح عندي أنك رأيته وناجيته ونفرته عني، ولقد أسررت إليك عما في قلبي إليه فأذعت سري وعصيت أمري».
ولكن رزيق أنكر كل التهم المنسوبة إليه وقال لسيده سيف: «ما رأيته ولا ناجيته ولا أفشيت لك سرا، فإن من رفع هذا الخبر عني غير صادق، فسكن غضبك وارجع عن سورتك فإنك منسوب إلى الحلم لا إلى الظلم». ولكن سيف بن سلطان لم يصدق رزيق ولأنه كان أقرب الناس إلى مجلسه، أمر بسجنه وتقييده بالسلاسل والحديد لمدة ثلاثة أشهر وبعدها أطلق سراحه. بعدها أرسل سيف بن سلطان رسائله الشديدة لأحمد بن سعيد يأمره بترك صحار والقدوم فورا إلى مسقط، ولكن أحمد اعتذر عن ذلك لعدة أسباب ولم يكاشفه بأنه يخشى اغتياله.
فرد عليه برد غليظ وقال له مهددا: «إن لم تصلنا فنحن سنصل إليك»، ومن هنا أمر بتجهيز أربعة مراكب بجنوده للتوجه إلى صحار نحو أحمد بن سعيد لإنهاء حكمه وحياته، وحينما وصل إلى صحار وأرسل يطلبه فورا للمثول بين يديه في سفينته مع إعطائه الأمان، خرج أحمد بقارب صغير متوجها للقائه، ولكن بعض جنود سيف بن سلطان وقبل أن يصل إليهم كانوا يؤشرون له بالهروب والرجوع للقلعة لأن هناك أمرا مباشرا صادرا من سيدهم لاغتياله فور وصوله للسفينة، فعاد أحمد بن سعيد إلى القلعة وتحصن بداخلها مرة أخرى، وهنا تأزم الموقف وخرج أكابر القوم من الجبور قادمين من بركاء إلى صحار للإمام سيف بن سلطان لتهدئة الأمور وإنهاء أزمة الثقة التي طالت بينه وبين واليه ونية الاغتيال بعدما شك في طاعته وولائه.
وحينما وصلوا إليه قالوا: أيها الإمام ما مرادك بواليك أحمد بن سعيد؟!
فقال لهم: لا شيء إلا وصوله إليّ.
فقالوا: كيف يصل إليك وقد أوحشته بكتبك وسفائنك فما ينبغي منك هذا وهو قد صار واليك الناصح لك، ولو لم يوحشه أحد عنك لما رجع في اليوم الذي وصلك فيه إلى مسقط بقلب مذعور، ولو لم يكن ناصحا ومطيعا لما أتى في قاربه إليك ولو لم يوحشه أحد من أصحابك ما رجع بقاربه إلى البر وأنت بحمد الله رجل حليم وتعلم أن النفس قد تأبى العطب، وإنما الرأي السديد أن نمضي إليه ونخبره عنك لتسمع الجواب إليك.
فوافقهم على ذلك وذهب المصلحون إلى أحمد بن سعيد وسألوه بما حدث فقال لهم: «إني لست بمستنكف عن طاعته ولكن النفس تأبى العطب، ولو كان يمكن أن أفشي أسرار الذين أخبروني عنه عن الشأن الذي عزم عليه من قتلي لأخبرتكم عنه، ولكن ذلك لا يمكن إذاعته ولا يحسن إلا كتمه».
وفي الأخير اصطلح الأمر على أن يرسل أحمد بن سعيد ابنه الأكبر هلال إلى سيف بن سلطان من أجل الصلح، وأن يأخذ الإمام سيف ابنه هلال كرهينة معه حتى يضمن فعليا ولاء والده أحمد بن سعيد، وتم له ذلك وأخذ سيف ابن واليه كرهينة وفرض الإقامة الجبرية عليه في حضرته وحضرة ملكه، ولم يعد هلال لوالده إلا بعدما اشتدت الفتنة بين أهل عمان وخلاف أكثرهم مع سيف بن سلطان الذي أساء السيرة وزاد من رقعة الشقاق بينه وبين معارضيه حتى تركه جميع أكابر القوم نتيجة اعتماده على الجيش الفارسي في الدخول لعمان والتوغل في شؤونها الداخلية، فارتكبوا المجازر وعاثوا في البلاد فسادا.
فبايع الناس غريمه بلعرب بن حمير اليعربي إماما على عمان، لتزيد حدة الحرب الأهلية بين الطرفين وبالتدخلات الخارجية الفارسية التي أدخلت عمان في نفق مظلم وبرك من الدماء تسيل بين أهلها.
سيطر سيف بن سلطان بالجيش الفارسي على مدن ساحل عمان كخور فكان وجلفار ومن ثم مدن الظاهرة وأغلب مدن داخلية عمان ومسقط وانهزم بلعرب أمامه وقتل كثيرا من اتباعه في روي وقريات وغيرها، ليستدرك أهل الحل والعقد بعمان الأمر بمبايعة إمام آخر يستطيع أن يقارع سيف بن سلطان وجيش العجم، فبايعوا سلطان بن مرشد بن عدي اليعربي بنخل إماما لهم فأحسن السيرة واستطاع هزيمة سيف وجيش العجم في كثير من مدن عمان، فعسكر سيف في جلفار مع العجم ومنها بدأ مرة أخرى بالهجوم على المدن العمانية، واتفق هو والعجم على أن يحاصروا صحار ويسقطوها ويقتلوا واليها أحمد بن سعيد الذي وبجيشه قليل العدد بقى صامدا في قلعة صحار رغم شدة الحصار عليه ولمدة 9 أشهر، عانى فيها أهل صحار معاناة قاسية نتيجة حصار العجم لها وأتباع سيف بن سلطان، فأنجدهم الإمام سلطان بن مرشد بجيش كان يقوده بنفسه فكانت معركة عظيمة برفقة صاحبه أحمد بن سعيد حتى سقط شهيدا وهو بين يديه بعد ثلاثة أيام من جراحه وهو يوصيه بعمان والمقاومة العمانية خيرا، فواصل أحمد بن سعيد القتال بعدما استبسل هو وجيشه، واستمرت المعارك بين كر وفر، في المقابل فقد سلطان بن سيف شعبيته وأصبح وحيدا مذموما من قبل أهل عمان حتى مات غير مأسوف عليه في حصن الحزم وجنود العجم في جيشه يعيثون في البلاد فسادا ونهبا وقتلا، حتى تمكن بعد معارك طويلة وبالخدعة في الحرب أن ينهي أحمد بن سعيد وجودهم في عمان ويطهر البلاد منهم ويوحد العمانيين مرة أخرى خلف قيادته التي استطاع من خلالها أن يقود البلاد إلى الوحدة الوطنية ويكرم من كان سببا في نجاته من الاغتيال، ويصبح من أشهر حكام عمان عبر التاريخ منذ بداية ملكه بعدما بايعه الناس حاكما على عمان وإمامهم عام 1154هـ، ويؤسس أسرة قوية تعتبر من أقدم الأسر العربية الحاكمة في شبه الجزيرة العربية حتى يومنا هذا.

المرجع:

السيرة الجلية سعد السعود البوسعيدية، حميد بن محمد بن رزيق (ت: 1274هـ)، تحقيق عبدالرحمن بن سليمان السالمي، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان 2007م.