عمانيات: علياء..شجاعة سيدة في ليلة الانقلاب

مزاج الخميس ٠٨/أكتوبر/٢٠٢٠ ١٩:٠٧ م
عمانيات: علياء..شجاعة سيدة في ليلة الانقلاب

إعداد – نصر البوسعيدي

كان المنظر مخيفا والهروب قاسيا للسيدة علياء بنت ثويني البوسعيدية التي لم تتوقع بأن تلك الليلة الهانئة مع زوجها السلطان وتحت إضاءات سُرُوج قصر العلم الخافتة، ستتحول إلى ليلة مرعبة يحيط بهم دوي الرصاص ورائحة الدم والموت من كل جانب!!

في اللحظة التي مات فيها السلطان تركي بن سعيد بن سلطان البوسعيدي عام 1888م بمسقط، انتشر الخبر سريعا في العاصمة التي تحولت إلى لحظات حداد لفقد السلطان الذي واراه الناس الثرى وابنه فيصل في قصر العلم جالس على كرسي الحكم ينتظر الانتهاء من مراسم الدفن ليعلن نفسه سلطانا على البلاد!

وحينما عاد الناس من مراسم الدفن ومعهم السيد محمد أكبر أبناء السلطان تركي والذي أراد أن يدخل إلى قصر العلم ،، تفاجأ أن القصر مغلق بأمر من أخيه فيصل الذي وأتباعه ومعه بعض كبار زعماء القبائل قد نصب نفسه سلطانا على عُمان، بعدما رفض الحضور للجنازة مثلما قال لأصحابه نتيجة حزنه الشديد، فاكتفى شقيقه محمد بالصمت وعدم المطالبة بالحكم مقابل مرتب شهري مقداره 600 دولار نمساوي

.
كان السيد فيصل بن تركي طموحا للغاية فما أن مات والده حتى بعث برسالة مباشرة إلى حلفاء عُمان الإنجليز بأن والده قد فارق الحياة وأوصاه بأن يستمر بصداقته معهم وبأنه سلطان للبلاد منذ اللحظة ويسانده بذلك كبار زعماء القبائل، واستطاع بقيادة شقيقه الأصغر السيد فهد فيما بعد من إخضاع حالات التمرد التي كانت تواجه حكمه.
طبعا الجميع يعلم بأن الصراع على السلطة بين أفراد البيت الحاكم كان على أشده منذ وفاة مؤسس الإمبراطورية العمانية السيد سعيد بن سلطان، ولكن اعتلاء السلطان فيصل للحكم بهذه الطريقة كانت سلمية للغاية ورغم اعتراض عمه عبدالعزيز وبعض أشقائه، ولكن كل ذلك لم يصل لحظتها للصدام الدموي ليعتبر من السلاطين القلائل
الذين تسلموا حكم البلاد دون دماء رغم عدم اعتراف الحكومة البريطانية به كسلطان إلا بعد مدة زمنية استطاع فيها السيد فيصل من قهر المصاعب التي واجهته

إقرأ أيضاً :عمانيات: جاسوسة حاكم عُمان.. من امرأة فقيرة معدمة لأهم جاسوسة ومخبرة

كان الخطر الأكبر الذي يواجه السلطان هي الظروف الإقتصادية التي اضعفت ميزانية حكومته نتيجة عوامل كثيرة منها ذلك الإعصار المدمر الذي ضرب عُمان وخلف أكثر من 700 قتيل واقتلع الكثير من الأشجار المثمرة والنخيل في عام 1890م مما أثر كثيرا في ثروة البلاد الزراعية التي فقدت بالإعصار، بالإضافة إلى تلك المؤامرات التي كانت تحاك ضده للإطاحة به واغتياله بتخطيط من سلطان زنجبار عمه حمد بن ثويني وبعض زعماء القبائل في عُمان لمشروع توحيد زنجبار وعُمان مرة أخرى وتحت حكم سلطان واحد.
رُسمت الخطة لتقتضي بالتخلص من السلطان فيصل وقت الهجوم على مسقط والإطاحة بحكمه لتعود الإمبراطورية العمانية موحدة تحت حكم سلطان زنجبار ابن عمه حمد بن ثويني بن سعيد بن سلطان البوسعيدي.
كان السلطان فيصل ذكيا للغاية فقد قرب كبار العلماء إلى جانبه وأكرمهم كالشيخ نور الدين السالمي، كما أنه اتخذ مجموعة من القرارات التي كان يطالب بها كبار العلماء كمنع تجارة الخمر، ولقب نفسه بالإمام بالتوافق مع لقبه بالسلطان، واستطاع كذلك بالإغداق على الكثير من زعماء القبائل بالمال ليصبحوا في صف الوحدة الوطنية تحت حكمه، فكلما زاد عطاؤه كسب ولاءهم، وحينما مر بأزمة مالية عاصفة فقد ولاءهم وأصبح يعاني من تمردهم كثيرا، لدرجة أن بعض زعماء القبائل حينها كانت سلطته في تهدئة النزاعات القبلية العنيفة أكثر تأثيرا من السلطان نفسه بسبب المال.
وحينما بدأ نفوذ بعض شيوخ القبائل نتيجة ضعف السلطان ماليا، بدأت حركات التمرد والحروب القبلية في ازدياد، قابله بنفس الوقت تنامي نفوذ منافسه صالح بن علي الذي ما لبث إلا وأن اتفق بمراسلات سرية مع سلطان زنجبار مثلما أسلفنا للتخطيط والهجوم على مسقط واغتيال السلطان فيصل.
في هذه الأثناء حدثت نزاع مسلح دموي خطير بين قبيلتين في نزوى على إثرها استطاع الشيخ صالح تهدئة الأمور والصلح بينهما عن طريق إرسال ابنه عبدالله والوفد المرافق له، وهنا انتهزوا الفرصة للإطاحة بالسلطان بتدبير مكيدة له وهي أن يتوجه هذا الوفد إلى مسقط بقيادة عبدالله بن صالح نفسه بحجة مناقشة السلطان فيصل في قصره عن أوضاع هاتين القبيلتين وما حدث بينهما من نزاع أدى إلى مقتل العديد بين الطرفين، وبنفس الوقت ولتنفيذ الخطة تم الاتفاق مع الكثير من أتباعهم المسلحين للدخول إلى مسقط فرادى مقسمين على مجموعات صغيرة لكي لا يشعر بهم أحد ليجتمعوا سويا في ساعة الصفر للهجوم على قصر العلم واغتيال السلطان.
وصل عبدالله بن صالح ومعه محسن بن عامر وحمود بن سعيد كقادة مساندين للإنقلاب على السلطان وفق الخطة، فدخلوا إلى قصر السلطان فيصل بن تركي لمقابلته، وهنا استقبلهم السلطان بكل حفاوة وأكرمهم خير إكرام وبالأخص عبدالله بن صالح فقد أهداه السلطان 400 دولار نمساوي وزوده بكميات كبيرة من الأرز والحلوى والبن والخ من العطايا، وبعدما انتهى الضيوف من مكارم السلطان انصرفوا ليستقروا في المدينة يخططون لليلة الإنقلاب بعدما قاموا برشوة أحد أتباع السلطان واسمه خميس بن حويسن الذي لعب دورا في هذه الحادثة وفتح أبواب القصر لحظة الإنقلاب.
والجدير بالذكر أن بعض أتباع السلطان كانوا في نفس ذلك اليوم يحذرونه من أن هناك تحركات مريبة في مسقط التي يتوافد إليها بشكل غير طبيعي أفراد مسلحون على شكل مجموعات صغيرة تتكون من شخصين أو ثلاثة في نفس يوم وجود ضيوفه، ليقابل السلطان كل هذه التحذيرات بالابتسامات وبنوع من عدم الجدية لعدم تخيله بأن ضيوفه والذين أكلوا وشربوا من مجلسه هم من سينقلب عليه لإغتياله، لذلك استبعد كل تحذيرات المقربين له لدرجة أنه في تلك الليلة كان يقيم في القصر هو وعائلته فقط تحت حماية 4 حراس لا أكثر.
ولكن حدث ما لم يكن في حسبانه بتاتا، حيث قام خميس بن سويلم بإلهاء الحراس وهم أصحابه عن باب القصر ليدخل بينهم ويفتح أحد الأبواب بعد قتله للحراس هو وأصحابه الذين دخلوا لباحات قصر العلم مسرعين لتنفيذ عملية الاغتيال!
ما أن سمع السلطان تلك الطلقات التي قتلت حراسه علم تماما بأنه وزوجته السيدة علياءوشقيقتها في خطر داهم وبأن الموت أصبح قريبا منهم ..
أخذ السلطان فيصل بعض أسلحته، ومحازم الرصاص تحملها زوجته علياء التي أصبحت السند الأكبر له في تلك الأوقات العصيبة وبجنح الظلام لتسنده وتلقم سلاحه بالرصاص كلما انتهى من طلقاته عبر سلاحه الاول وهم يخرجون من سطح قصر العلم مقتحمين بعض الاسطح المجاورة المتلاصقة ببعضها البعض تحت وابل من الرصاص!
لكم أن تتخيلوا هذا المشهد .. السلطان يقاتل لوحده ومعه زوجته وشقيقتها يهربون من الموت ويواجهون أعداءهم بشجاعة، السلطان يقذفهم ببندقيته وزوجته السيدة علياء تلقم الرصاص في بندقيته الأخرى لتأخذ الفارغة وتملؤها بالرصاص دون خوف وعويل، كانت لحظتها خير سند للسلطان وساهمت بشكل كبير في مساعدته للدفاع عن أنفسهم في لحظات كانوا فيها دون حماية ومعرضين للقتل في تلك الفوضى وتحت انفجارات البارود الذي شقت نيرانه ذلك الظلام الدامس، وما هي إلا لحظات حتى أصيب السلطان بشظية في وجهه أدمته كثيرا ولكنه وزوجته وشقيقتها واصلوا اقتحامهم للأسطح وإطلاق النار على المهاجمين حتى وصلوا إلى مبنى الوكالة البريطانية القريبة منهم ودخلوها قرب الفجر يطلبون منهم المساعدة العسكرية لإنهاء التمرد، ولكن الإنجليز أبلغوا السلطان بأنهم فقط سيقدمون له حماية شخصية له ولعائلته، لذا رفض ذلك ولم يترك أصحابه الذين بدأوا يتجمهرون للدفاع عنه والإشتباك مع قادة أعدائه وأتباعهم.
وما هي إلا ساعات بسيطة بزغ فيها ذلك الصباح الدامي التي اهتزت من خلاله مسقط حتى وجد السلطان فيصل وعائلته محاطا بالمخلصين الذين استطاعوا أن يوصلوهم إلى قلعة الجلالي بعد سقوط قصر العلم.
وما أن وصلوا لقلعة الجلالي بدأ السلطان يعد العدة مع جنوده لقصف المعتدين وشقيقه محمد يعاونه بذلك من قلعة الميراني وبدأوا فعليا في قصف قصر العلم بمن فيه من المتمردون والذين وجدوا المدد القادم إليهم من القابل وما جاورها بقيادة الشيخ صالح بن علي، وقوات أخرى قادمة من الرستاق بقيادة سعود ابن الإمام عزان بن قيس البوسعيدي ليعسكروا جميعهم في روي.
وخلال هذه الأيام من الحرب وصل المدد كذلك للسلطان من قبل أتباعه من بعض المدن العمانية كصور وقريات وطيوي وجعلان بني بو علي، ليلتحم الجيشان في معركة عُرفت باسم دخلة مسكد.
أصبح الوضع خطيرا في ظل هذه الحرب الأهلية، وقامت بريطانيا بإجلاء رعاياها من المنطقة بعدما تم قتل أحد العاملين لديهم بالوكالة، وتم رفع العلم البريطاني على سور اللواتيا الذي أصبح يحمي العديد من الرعايا في ظل تلك الأحداث الدموية بمسقط التي تعرضت لحالات كثيرة من السلب والنهب والحرق، بالإضافة إلى تلك المعارك الدامية التي شهدتها ساحات قصر العلم وما جاورها واستمرت لأيام سقط فيها الكثير من القتلى، ليصل الطرفان في الأخير إلى صلح تحت رعاية بريطانيا نص على أن يصفح السلطان عن قادة الإنقلاب ويدفع مبلغا وقدره 12 ألف نمساوي للشيخ صالح بن علي لينسحب عائدا إلى بلدته، مع الإبقاء على سلطة عائلة قيس بن عزان البوسعيدي لتحكم الرستاق، بالإضافة إلى مطالبة بريطانيا السلطان بدفع تعويضات لرعاياهم من التجار الهنود مبلغ يقدر بأكثر من 77 ألف دولار نمساوي!
وبعد أن تم الصلح وخرج المهاجمون من مسقط وهم يحملون المال والوعد بإستمرار عطايا الحكومة المادية لكبار وقادة القبائل المعارضة، قام السلطان واتباعه بتقديم واجب العزاء لأهالي الضحايا من أتباعه، ليعملوا جميعا منذ تلك الساعات في تنظيف المدينة من الفوضى التي استمرت لأكثر من ثلاثة أسابيع، وترميم ما تم تدميره وإطفاء الحرائق التي التهمت العديد من الأماكن، وأصبحت خزينة الدولة نتيجة هذه الصراعات تعاني كثيرا من الضعف لترتفع الأسعار وتنقص المؤن وتتردى الحالة الإقتصادية للكثير من الأهالي وخاصة القاطنين في الداخل، ففي تلك الأسابيع انقطعت السفن التجارية التي كانت ترسو في مطرح حاملة معها العديد من السلع الغذائية كالأرز وغيره، وعاش فقط متنعما في تلك الأزمة من حصلوا على الاموالمقابل عدم تمردهم ضد حكم السلطان في وقت كانت البلاد تحتاج بشدة إلى وحدة وطنية تحفظ الحقوق وتساهم كثيرا في رفد إقتصاد البلاد ليستفيد منها كل العباد.
انتهى ذلك التمرد في مسقط ولكن آثاره أخذت تلاحق كل البسطاء نتيجة عدم مقدرة السلطان وفقر ميزانية البلاد من توحيد عُمان كليا وانتزاعها من سلطة تمرد القبائل التي تتحكم بها ولمدة طويلة، لتبقى كل هذه الأحداث شاهدة على حالات النزاع على السلطة وتلك الأخطاء الجسيمة التي عاشها أجدادنا نتيجة قرارات فردية قادتنا لحروب أهلية مدمرة ووضع اقتصادي مزر.
نعم نجا السلطان فيصل من الاغتيال، وبقت سيرة وشجاعة زوجته علياء أم السلطان تيمور مسطرة في تاريخ تلك الأحداث.

المرجع :
- عُمان في عهد السلطان فيصل بن تركي 1888 – 1913م فهد بن محمود الرحبي، الإنتشار العربي (الطبعة الأولى – 2018م ) بيروت.