الاستشراق الفني الفرنسي..الشرق عالم الاساطير الجميلة

7 أيام الأربعاء ١٣/يناير/٢٠١٦ ٠٠:٢٥ ص
الاستشراق الفني الفرنسي..الشرق عالم الاساطير الجميلة

باريس - اعداد: هدى الزين

تشهد باريس بين حين وآخر معارض للمستشرقين الفرنسيين للتذكير بتأثير الشرق على ابداع الفنانين الفرنسيين المستشرقين من أهمها معرض ديلاكروا إلى رينوار، جزائر الرسامين ثم معرض "ديلاكروا، الرحلة إلى المغرب" (1994-1995) و"مغرب ماتيس" (1999-2000) اللذين أقيما في معهد العالم العربي وجذب كل منهما أكثر من ثلاثمائة وخمسين ألف زائر.
كما اقيم معرض في متحف "أورسي" في باريس للتعريف بنتاج الفنان الفرنسي جان ليون جيروم الذي يعدّ أحد أشهر الفنانين المستشرقين في القرن التاسع عشر.
كما اقيم معرض عام 2014 بعنوان تذكار من المغرب في معرض أوجين دولاكروا بباريس ليسلط الضوء على تأثير الرباط في أعمال الفنان العالمي، ورسوماته ومنحوتاته مستوحاة من مواد خزفية وجلدية وأدوات موسيقية مغربية الرسم الاستشراقي في الغرب جسد طقوس الشرق وعادات الشعوب العربية وفتنة النساء وجمال العمارة الاسلامية في لوحات خالدة تتصدر المتاحف العالمية.
واهتم الرسم الاستشراقي، البريطاني والفرنسي بالشرق وجسدوه في اجمل اللوحات التي تتصدر المتاحف العالمية حيث نجد في لوحات الفنانين المستشرقين العالم السري لحريم الشرق المتوجات بالجمال والسحر الدافئ، حيث جسدها الفنانون الغربيون كشخصية تنبض بالشاعرية والرهافة والغموض وبجمال آسر يثير المخيلة والإبداع كما ان تفاصيل الحياة اليومية وطقوس الشرق وسحره وعادات الشعوب العربية والإسلامية الدينية والاجتماعية مثل الاهتمام بالفضاء والمعمار، الداخلي والخارجي، البيوت والقصور والمساجد، ومشاهد عامة لمدن، سماوات مفتوحة للضوء والدفء والألوان الخلابة.
إضافة للحياة اليومية في مدن الشرق، السوق، الحكواتي، الباعة في ضوضاء، الجلسات الكسولة أمام البيوت، دخان المقاهي وكلها تجسدت في معظم لوحات كبار الفنانين الفرنسيين المستشرقين.
فالشرق ظل «عالم الأحلام» والمغامرة والترحال عبر الحضارات الشرقية.. بغموضها ودفئها وغرائبيتها.. والانجذاب الى الشرق لم يعد مجرد حلم رومانسي في ارتياد الصحراء واكتشاف العادات والتقاليد.
بل هو محاولة اكتشاف جديدة للشرق القديم أصل التاريخ والإنسانية ومهبط الاديان السماوية ومحط الحضارات القديمة ومثار الأحداث السياسية في القرن التاسع عشر فجسد الفنانون المستشرقون روح الشرق في تعبيرهم الفني عن العديد من المواضيع التي لمسوها في ترحالهم في بلدان عديدة (المغرب العربي ومصر ومكة وسوريا وفلسطين ولبنان وتركيا) وجسدوا بريشتهم الحرب والعنف، النساء، الصحراء، الأسواق، والعادات والتقاليد وخصوصية الدين الإسلامي في هذه المجتمعات.
وبدا الشرق في رسوم المستشرقين الرحالة تحمل التجدد في مضمونها وشكلها حيث سيطرت الألوان المبهجة والزاهية التي تعبر عن صفاء السماء، ولون الصحراء، وحدة الشمس، ولون الأزياء المزركشة وجمال فن العمارة، مما جعل لوحاتهم تأخذ خصوصية الشرق في سحر الألوان الذي اعتبره الفنانون الغربيون انتصاراً على الألوان التقليدية القاتمة والكئيبة للرسم الفرنسي.
وهذا التيار الاستشراقي في الرسم طبع الرسم الفرنسي ولاسيما في أعمال(ماتيس ودولاكروا وماجوريل وجون ليون جيروم وإتيان دينيه الذي اعتنق الإسلام ولقب بنصر الدين دينيه وآخرين، وهؤلاء حققوا العديد من اللوحات الشهيرة من استلهام مواضيعهم من بلدن عديدة من المشرق العربي، وبلدان المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب).
‏ وتبلورت المقاربة الأولى في العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب في القرون الوسطى مع انطلاقة الحرب الصليبية (القرن السادس عشر) حيث يلاحظ ظهور التأثير الإسلامي في تلك الفترة في فن العمارة الفرنسية في النقوش والمحفورات والتطاريز والمنمنمات.
وبعض الرسوم التزيينية لنماذج وأساطير مستمدة من الشرق مثل ابي الهول وجلجاميش وهذه الرسوم نجدها واضحة في كاتدرائيات ليون وسان دالمان والخط الكوفي لعبارة «ماشاء الله» التي تزين كنيسة دوبوي وكاتدرائية راد.‏
كما انعكس الشرق في مخيلة الرسام الفرنسي والغربي في مطلع القرن الفائت عبر حكايات ألف ليلة وليلة، حيث أحتل هذا العمل الأدبي الهام آفاقاً واسعة للتخيل.
ويعتبر الفنان الفرنسي اوجين دولاكروا 1798¬- 1863 من اشهر الفنانين الفرنسيين الذين رسموا الشرق وتصدرت لوحاته الفنية كبريات المتاحف العالمية وقد زار دولاكروا المغرب مع المبعوث الخاص للحكومة الفرنسية الكونت شارل دومورناي لإجراء مفاوضات دبلوماسية مع السلطان عبد الرحمن وانطلقت رحلة دولاكروا على متن اللؤلؤة في 11 كانون الثاني 1832 من مرفأ (طولون) لتدوم ستة اشهر وقد وجد في الشرق مايدهش عينيه ويملأ ذاكرته ومخيلته بأشياء وألوان غير مألوفة لعينيه حتى انه كتب لأخيه قائلاً: (انني اعيش كأنني في حلم وانظر إلى الأشياء بفضول خشية ان تهرب مني) وهكذا وقع دولاكروا أسير العشق للشرق واستهوته التفاصيل الصغيرة في الطبيعة والازياء والوجوه والعادات.
وكان يدون هذا في أوراقه أو لوحاته، وجاءت مشاهداته في المغرب منوعة وغنية مثل الأعياد والإعراس والاحتفالات الشعبية، واعتبر النقاد أن لوحاته هذه تشكل مرحلة مهمة ومميزة في مسيرته الفنية.‏
وقد كانت مشاهداته وانطباعاته في يومياته التي كتبها بعد عشرين عاما من رحلته وكتب عنها قائلا: لم ابدأ بانجاز شيء مقبول في أثناء رحلتي الى المغرب الا في اللحظة التي نسيت فيها التفاصيل الصغيرة لأتذكر فقط الجوانب الشاعرية التي تجذب الانتباه للوهلة الأولى...وقد ترك دولاكروا تأثير هائل على مونيه ورينوار وسيزان وديجا وسورا وفان غوغ وماتيس ودوفي وماركيه وكتب عنه مونيه: دولاكروا صاحب أجمل لوحة ألوان شهدتها فرنسا ونحن كلنا نرسم داخله.
اما (بودلير) فقد كتب له قصيدة في مجموعة أزهار الشر، ولوحات دولاكروا تعرض في متحف اللوفر بباريس ومتحف شانتيي وفي متاحف أوربا وأميركا الشمالية ومن أجملها (لوحته فانتازيا..قائد مغربي في زيارة قبيلة..نساء جزائريات..مرور عابر..موسيقى موغادور..سلطان المغرب محاطا بحراسه هنري ماتيس 1869¬1954 ورحلته المغربية. ‏
الفنان الفرنسي ماتيس الذي ولد عام 1869 تأثر بالشرق قبل زيارته للمغرب عام 1906 فقد كان شغفه واضحاً بالفن العربي اثر زيارته لمعارض الفن الاسلامي التي اقيمت في باريس 1893 ¬ 1894 وقد بدا هذا التأثير واضحاً في معظم رسوماته خاصة في لوحة السجادة الحمراء 1906 ولوحة الجزائرية 1909.‏ وأسهمت رحلاته الى المغرب والاندلس الى تحول فني واضح.
وكما يقول ماتيس: (ان رحلاتي الى المغرب أسهمت في تحول كان يحتاج اليه فني، اذ عاودت الاتصال بالطبيعة بصورة أوثق، وهذا مالم تستطع انجازه نظرة فنية ضيقة مثل الوحشية).التمازج بين عالمين من التقاليد الفكرية، مرحلة غنية بالإعمال الفنية التي تتالت الواحدة بعد الأخرى فرسم (على الشرفة، باب القصبة، المقهى المغربي ولوحة المغاربة) حملة نابليون بونابرت وتاثيرها في فن الاستشراق دون شك كانت حملة نابليون بونابرت على مصر التقاء فريداً للشرق والغرب.
وقد دفعت الحملة الفرنسية ومارافقها من معارك بعض الرسامين الى استلهام بعض الأعمال البطولية لتصوير مرحلة من حياة بونابرت في الفترة الشرقية ومن ابرز هؤلاء جان انطون غرو 1771¬ - 1835 ومن أهم لوحاته لوحة محفوظة في متحف (نانت) هي معركة الناصرة 1801، ولوحة (مصابون بالطاعون في يافا) 1804 وهي محفوظة في متحف اللوفر ولوحة (معركة ابي قير) 1806 في متحف فرساي.
أما الفنان والنحات والرسام (جول روبير اوغست) فقد اعتبر من رواد الاستشراق في فرنسا واثر في الفنانين الذين اتوا بعده مثل دولاكروا وفيرنيه وجيريكو وبونيتيغون وشامبارتان، أما الرسام ديكان فقد بهرته الوان واضواء الشرق في تركيا حيث بقي في ازمير مدة سنة.
هذه الرحلة التركية أعطت أعماله نفحة شرقية وعرف انه كيميائي الالوان من خلال ابرازه للالوان الزاهية والحادة خاصة في لوحاته الشرقية، مثل «لوحة استراحة القافلة، اولاد اتراك يلهون مع سلحفاة، شارع في ازمير وغيرها».‏
ويعتبر الفنان (ماريلا) الذي زار سورية ولبنان ومصر وكان يوقع رسائله باسم المصري بروسبير ماريلا، من اكثر الفنانين غزارة باعماله التي اتسمت بالموضوعات الشرقية، اذ قدم حوالي 500 عمل فني شرقي ومن اهم لوحاته (مشاهد من سورية 1843 مقهى على احد طرق سورية (1844) مشهد للاذقية مشهد من طرطوس»، إضافة إلى لوحات لمشاهد للبنان ومصر والقدس وتركيا والجزائر.‏

نصر الدين دينيه بين الاستشراق الفني والإسلامي ‏
الرسام الفرنسي إيتان دينيه أونصر الدين دينييه اسمان لشخص واحد هو الرسام الفرنسي ايتيان دينيه الذي عاش في بداية القرن العشرين مغامرة مثيرة ابتدأت فصولها في باريس وانتهت بقرية صغيرة في جنوب الجزائر اسمها بوسعادة التي أوصى أن يدفن فيها بعد وفاته، لم يكن الفنان الفرنسي «ألفونس إتيان دينيه» (1861 – 1929) وحده من طلّق حياة البذخ الباريسية، واختار العيش في عوز الصحراء وبدائيتها، بل كان واحداً من أبرز المستشرقين الغربيين، الذين قرروا الإقامة في الجنوب الجزائري، لكن «دينيه» يعد رسامها الأول حيث أنجز عنها أكثر من مائة لوحة فنية.
ورغم مرور (86) عاماً على رحيله، لم يستطع أي فنان منافسته في رسم مدينة «بوسعادة» التي حل فيها سنة (1884)، وواظب طيلة نصف قرن على توثيق حياة الناس الزاهدة.
كما صور ببراعة مغرية نساءها اللواتي يطلق عليهن اسم «النايليات» نسبة إلى الولي الصالح «سيدي نائل» في المنطقة، فكان السر الذي ألهمه الموهبة والخلود.
تعلم دينييه اللغة العربية وعاش الحياة اليومية الجزائرية، كما تأثر بالديانة الإسلامية واعتنق الاسلام عام 1913 كما قام بأداء فروض الحج واتخذ لنفسه اسم نصر الدين دينيه اسماً إسلاميا بعد اعتناقه الدين الإسلامي.
واتسمت لوحاته ذات الطابع الديني بالتقوى واعتبرت من أجمل اللوحات الاستشراقية التي صورت «الحج، والطواف حول الكعبة، جبل النور 1929، مشهد المدينة المنورة، قبر الرسول، جبل عرفات في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة 929»....
يمكن وصف معظم أعماله قبل سنة 1900 بأنها "مشاهد بشرية واقعية ومعاصرة وبعد اعتناقه الإسلام، وبدأ برسم الموضوعات الدينية.
وعن علاقته بالثقافة الإسلامية والعربية فقد اعتبر دينييه مدافعا عنها ككاتب حيث اصدر كتاب الشرق والغرب تصدى فيه للرد على كبار المستشرقين الغربيين فبرهن على عدم الاستقامة الخلقية للويس برتراند واظهر سخف وسوء نية ليون روش الذي اعتنق الإسلام لأسباب غير مصرح عنها على حد تعبيره وكتب قائلا: على الفرنسيين ان يصلوا الى الاعتراف بفضائل وجمال وثقافة الدين الاسلامي وهم يقفون حيالها في غالب الأحيان موقف المتحفظ هذا اذا لم يقفوا موقفا عدائيا يستند الى الجهل.
كما اظهر في كتاباته الأخرى ان الفن ألزخرفي الإسلامي والعربي كان سابقا وممهدا للفن التجريدي المعاصر كما كان دينيه نشطا في ترجمة الادب العربي إلى اللغة الفرنسية، من بين أعماله ترجمة لقصيدة ملحمية لعنترة بن شداد سنة 1898 جاك ماجوريل ‏ عاشق مراكش. ‏
أحب جاك ماجوريل مراكش وفتن بسحرها ولذلك عاش فيها واعتبر المغرب بلده وابتداء من عام 1920 وفي بيته المراكشي زاره ونستون تشرشل واغلب الرسامين الأوربيين بعد ان بدأ يفرض حضوره في المعارض العديدة التي يشارك فيها في المغرب وفرنسا رسام الجنوب المغربي، وقد صدر كتاب ضخم للناقد الفرنسي فيلكس مارسيلاك تناول فيها تجربة هذا الرسام الذي اقترن اسمه بمدينة مراكش التي سحرته بكل تفاصيلها، أمكنتها، رائحتها، أنوارها، أهلها لذا سجل كل مافيها في لوحاته عبر لعبة الألوان الساحرة، الألوان المشعة، المتألقة، ويقول ماجوريل عن منطقة الأطلسي (هناك المشاهد الواقعية جدا، تنسي العصر والذات وتترك العيش في قلب العصور الوسطى)
وبعد الحرب العالمية الثانية تجول ماجوريل في السودان ثم غينيا بحثاً عن جذور عارضاته الجميلات ليسجل مشاهد الحياة اليومية للناس كما فعل في رحلته المغربية.
واستطاع خلال تجربته الفنية ان يمزج بين الحضارات الشرقية والغربية لاعطاء فن حضاري متميز.‏
والمدرسة الاستشراقية الفرنسية مليئة بأسماء عديدة استلهموا من الشرق أجمل لوحاتهم ومن المدرسة الفرنسية نذكر البيراوليه وبنجامين كونستان ونارسيس برشير ودولاكروا ودينيه وماتيس وغيرهم وكلهم وجدوا في الشرق عالماً سرياً مقدساً غامضاً وساحراً في تقاليده وعناصر الحياة فيه مثل فن العمارة، الحريم، الأسواق، الأزياء، الطبيعة، البدو، الصحراء، وغيرها.‏ وقد حققوا أجمل اللوحات الفنية التي عكست عشق الفنان الغربي للشرق، الذي اعتبر غذاء للمشاعر وغنى بالتجربة الإنسانية والفنية التي تخلد في المتاحف العالمية مثل متحف اللوفر وفرساي واورسي كشاهد على ان الشرق بهر الفرنسيين وكان محفزا لابداعهم ومغامراتهم الحياتية والفنية.‏