العرب يفقدون قطباً آخر

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٤/أكتوبر/٢٠٢٠ ٠٨:٥٧ ص
العرب يفقدون قطباً آخر

مرتضى بن حسن بن علي

فقدت الكويت أميرها الشيخ صباح الأحمد الصباح بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يناهز ٩١ عاما، وما أن أعلن وزير الديوان ألأميري في الكويت خبر وفاة سموه، إنهالت التعازي من ملوك وأمراء ورؤساء الدول المختلفة لتعزية القيادة الكويتية والشعب الكويتي الشقيق في وفاة أميرها وإبراز جهوده ومناقبه ومساعيه المتعددة، وقد أرسل صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أل سعيد المعظم -أبقاه الله- ببرقية تعزية ومواساة إلى أمير الكويت الجديد سمو الامير نواف الأحمد الجابر الصباح، أعرب جلالته عن تعازيه وصادق مواساته لسموه ولأسرة الصباح والحكومة الكويتية والشعب الكويتي الشقيق في هذا المُصاب الجلل، كما أصدر جلالته أوامره السامية بإعلان الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام وتعليق العمل في القطاعين العام والخاص خلال فترة الحداد الرسمي.

قبل ألإعلان الرسمي الصادر من الديوان ألأميري الكويتي، عاش الرأي العام الكويتي والخليجي يوما صعبا، بعد أن سرت شائعات توحي بوفاة الأمير، وبوفاته فقدت الكويت «مهندس» سياستها الخارجية وعميد دبلوماسيتها، حيث إتبع الأمير الراحل سياسة دبلوماسية هادئة، أبعدت بلاده عن العديد من المشاكل والنزاعات والتوترات الإقليمية، رغم إن الكويت ذاتها وقعت ضحية إجتياح أراضيها في ٢ أغسطس ١٩٩٠م، وعاشت أيام صعبة بعد أن تم مسحها من الخريطة، رغم إنها لعبت دور الوسيط النزيه أثناء الحرب العبثية بين العراق وإيران والتي دامت ٨ سنوات دامية. الكويت أيضا لعبت دورا مماثلا في أزمات مختلفة التي هزت المنطقة، منها قيامها بمحاولات جادة لإنهاء الحرب الاهلية بين شطري اليمن في التسعينات من القرن الفائت، كما بذل الامير الراحل، جهودا مقدّرة لإيجاد مخرج للأزمة الخليجية التي تفجرت في الخامس من شهر حزيران عام ٢٠١٧م، كما لعب الفقيد أيضا دورا لإنهاء نزاعات إقليمية عديدة.

وبسبب مناقبه العديدة، فإن الفقيد سوف يترك فراغا في الشارعين الكويتي والخليجي، بل في الشارع العربي . يُذكر إن الفقيد الراحل تولى حُكم الامارة في عام ٢٠٠٦م بعد وفاة أخيه غير الشقيق الشيخ جابر الصباح، ليكون الامير الخامس منذ إستقلال الكويت عام ١٩٦١م، والأمير الخامس عشر من أسرة ألصباح التي حكمت الكويت منذ عام ١٧٥٢م وكان أول حكامها الشيخ جابر الصباح ، الذي حصل على مبايعة شعبية.

قبل أن يصبح أميرًا على البلاد،لعب الفقيد دورا كبيرا في تشكيل السياسة الخارجية للكويت، نظرا لتوليه حقيبة وزارة الخارجية لمدة ٤٠ عاما، كما تولى الحقيبة الإعلامية بعضا من الوقت وترأس الحكومة الكويتية من عام ٢٠٠٣م إلى عام ٢٠٠٦م، هذه السنوات الطويلة من العمل السياسي أكسبته الخبرة السياسية والحنكة الدبلوماسية وساعدته في قيادة جهود الوساطة المتعددة، كما أكسبته حب الكويتيين والخليجيين والعرب عموما.

مساعي الوساطة التي قادها في أماكن متعددة إستمرت بعد إستلام الشيخ صباح- رحمه الله- الحكم في عام ٢٠٠٦م. وبسبب مناقبه العديدة، ومحاولاته الحثيثة والمستمرة لدفع عجلة الحوار قامت منظمة الأمم المتحدة بتسميته قائدا للعمل الإنساني في عام ٢٠١٤م، وهو لقب لم يسبقه إليه أحد، كما تم تسميته من الكثيرين كأمير للإنسانية.

في عُمان، كان الحزن واضحا عند المواطنين العمانيين على رحيل الشيخ صباح، وقد إمتلأت وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة بعبارات الحزن على رحيله والإشادة بمناقبه المتعددة وبمواقفه المختلفة تجاه جملة من القضايا الخليجية والعربية، العُمانييون يكنّون حبا خاصا للكويت وأميرها، مثلما كان الفقيد الراحل يحب عمان وشعبها وسلطانها الراحل.

زيارة الفقيد لعمان في شهر فبراير ٢٠١٧م، حُظيت بإستقبالات رسمية وشعبية، تخللتها مشاعر الود والمحبة العفوية، فجلالة السلطان قابوس وسمو الامير صباح - رحمهما الله- كانا يُشكّلان كفتي ميزان الحكمة وصوت العقل في منطقة حساسة ملتهبة، تتقاذفها الامواج المتلاطمة والشكوك المتبادلة، الفقيد الراحل كان أيضا يقوم بعدد من الزيارات الخاصة لعمان بين فترة وأخرى، ويذهب إلى المنطقة البحرية العمانية ‹الشويمية› تحديدا، التي تبعد نحو ٧٥٠ كيلومتر من العاصمة مسقط، لممارسة هواية الصيد، والشويمية تطل على بحر العرب وهي من مناطق الصيد الجميلة، وتمتاز برمالها الذهبية وشواطئها الطويلة وسلسلة جبالها النادرة الجميلة وبها ووديانها الساحرة وتجوبها بعض الغزلان التي تستهوي الأنظار، كما تجري في وديانها المياه المتدفقة بعد هطول الأمطار الغزيرة. في هذه المنطقة الجغرافية المميزة التي صنعتها ألأشواق المتبادلة بين البحر والموج والرمل والصخر والجبل، والتي أصبحت من مناطق الصيد الجميلة نتيجة تنوع أسماكها ووفرتها وتعدد أحجامها، وهدوئها ونسيمها العليل ومناخها المعتدل طوال المواسم الاربعة، في هذه القرية كان الود متبادلا بين الفقيد الراحل وسكان القرية الطيبين المتميزين بالتواضع والبساطة وكرم الضيافة.

كان هو وجلالة السلطان قابوس-طيب الله ثراه- يشكلان كفتي ميزان الحكمة وصوت العقل والدبلوماسية الهادئة، وفِي أشهر قليلة فقدنا كلا الحكيمين. رحيل سمو الشيخ صباح قد يثير عددا من الاسئلة:

ماذا سوف يكون مصير مجلس دول التعاون الخليجي الذي مزقته الخلافات وتناقض الرؤى؟ كيف ستؤثر وفاة الشيخ صباح الأحمد الصباح على مرتكزات السياسات الخارجية الكويتية التي حاولت لعب دور الحياد في الأزمات العديدة.

وما مصير العلاقات بين الكويت وجارتها على الضفة الثانية من الخليج؟ ومن المعروف إن الكويت بقت محافظة على علاقاتها مع طهران، وكان الامير الراحل من الحكام الخليجيين القلائل الذين زاروا إيران، وكان يبذل جهودا لتحسين العلاقات بين إيران ودول الخليج.وما تأثير رحيله على التوازنات القائمة في الخليج بعد أن تفجرت الأزمة الخليجية في ٥ حزيران عام ٢٠١٧م، ووضعت مجلس دول التعاون في أزمة عميقة التي ما زالت مستمرة؟

وما مستقبل العلاقات بينها وبين جارتها العراق؟ وهل سوف تستمر الكويت في مقاومة الضغوط للتطبيع الرسمي مع إسرائيل، والإنضمام للضغوط الأمريكية لفرض مزيد من العزلة على إيران؟ المراقبون يعتقدون إنه على الأرجح ان الأمير الجديد لن يبتعد عن نهج أخيه الراحل، ولا سيما إن سمو الامير الجديد الشيخ نواف الأحمـــــد أشــــار إنه ســوف سيتم السير على نهج الشيخ الصباح -رحمه الله-.

بفقدان أمير الإنسانية والعقل والحكمة، فقد الوطن العربي قطبا أخرا من اقطابه ومرتكزاته الصلبة، نسأل الله بأن يعوض العالم العربي بقيادات حكمية رصينة إنسانية في تفكيرها ومساعيها، لتكون خير خلف لخير سلف.وحفظ الله الكويت وأميرها الجديد وشعبها الشقيق.