أميركا المناهضة للتجارة؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:١٠ ص
أميركا المناهضة للتجارة؟

كينيث روجوف
يُنذِر تصاعد المشاعر الشعبوية المعادية للتجارة في حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لعام 2016 بتراجع خطير عن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الشؤون العالمية. فباسم الحد من التفاوت بين الناس في الولايات المتحدة، لا يتورع المرشحون لمنصب الرئاسة من الحزبين عن إحباط تطلعات مئات الملايين من الفقراء المعوزين في العالم النامي إلى الانضمام إلى الطبقة المتوسطة. وإذا أثبتت الجاذبية السياسية التي تتمتع بها السياسات المعادية للتجارة قدرتها على البقاء، فسيشكل هذا نقطة تحول تاريخية في الشؤون الاقتصادية العالمية، نقطة تحول لا تبشر بخير لمستقبل الزعامة الأميركية.
اقترح المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب فرض ضريبة بنسبة 45% على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، وهي الخطة التي تحظى بقبول العديد من الأميركيين الذين يعتقدون أن الصين تحقق الثراء بسبب ممارسات تجارية غير عادلة. ولكن برغم كل نجاحها غير العادي في العقود الأخيرة، تظل الصين دولة نامية حيث يعيش المنتمون إلى حصة كبيرة من السكان في مستوى من الفقر لا يمكن تصوره وفقا للمعايير الغربية.
ولنتأمل هنا الخطة الخمسية الجديدة في الصين، والتي تستهدف رفع 55 مليون شخص فوق خط الفقر بحلول عام 2020، وهي العتبة التي لا تتجاوز وفقا لتعريف الخطة 2300 يوان صيني، أو 354 دولارا أميركيا سنويا. وعلى سبيل المقارنة، يبلغ خط الفقر نحو 12 ألف دولار للشخص الواحد في الولايات المتحدة. صحيح أن الفوارق في تكاليف المعيشة كبيرة إلى الحد الذي يجعل المقارنة المباشرة غير عادلة، وصحيح أن الفقر حالة اجتماعية بقدر ما هو حالة اقتصادية، على الأقل في الاقتصادات المتقدمة؛ ولكن المبدأ العام الذي يشير إلى أن التفاوت بين الدول يطغى على التفاوت بين سكان الدولة الواحدة قوي للغاية.
من المؤكد أن مشكلة الفقر في الصين ليست الأسوأ في العالم. إذ يماثل عدد سكان كل من الهند وأفريقيا عدد سكان الصين تقريبا (1.4 مليار نسمة)، مع نجاح حصص أصغر كثيرا من السكان في بلوغ مرتبة الطبقة المتوسطة.
يُعَد المرشح الرئاسي الديمقراطي بيرني ساندرز شحصية أكثر جاذبية من دونالد ترامب إلى حد كبير، ولكن خطابه المعادي للتجارة لا يقل خطورة. فعلى غِرار اقتصاديين بارزين من ذوي التوجهات اليسارية، يهاجم ساندرز اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ المقترحة، حتى برغم أنها قد تعود بفوائد كبيرة على العالم النامي ــ على سبيل المثال، من خلال فتح سوق اليابان للواردات من أميركا اللاتينية.
كما يهاجم ساندرز المرشحة المنافسة هيلاري كلينتون بسبب دعمها لاتفاقيات التجارة السابقة مثل اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) لعام 1992. غير أن هذا الاتفاق أرغم المكسيك على خفض رسومها الجمركية على البضائع الأميركية إلى مستويات أدنى كثيرا مقارنة بالمستويات التي أضطرت إليها الولايات المتحدة من خفض الرسوم التي كانت منخفضة بالفعل على السلع المكسيكية. ومن المؤسف أن النجاح الباهر الذي سجله خطاب ساندرز وترامب المناهض للتجارة سحب هيلاري كلينتون بعيدا عن موقفها الأكثر وسطية، وربما يخلف نفس التأثير على العديد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ. وهي وصفة أكيدة للكارثة.
لا شك أن الشراكة عبر المحيط الهادئ لا تخلو من العيوب، وخاصة في ما يتصل بالمبالغة في حماية حقوق الملكية الفكرية. ولكن تصوير الاتفاق وكأنه قاتل كبير للوظائف بالنسبة للولايات المتحدة أمر يحتمل قدرا كبيرا من المناقشة، ولابد من القيام بأي شيء لتيسير بيع السلع العالية التقنية للعالم النامي، بما في ذلك الصين، دون خوف من استنساخ مثل هذه السلع على الفور. ويكاد يكون من المؤكد أن عدم التصديق على اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنه أن يحكم على عشرات الملايين من الناس في العالم النامي بالفقر المستمر.
إن العلاج الصحيح للحد من التفاوت بين الناس داخل الولايات المتحدة لا يكمن في التخلي عن التجارة الحرة، بل في تقديم نظام ضريبي أفضل، نظام أكثر بساطة وتصاعدية. وفي الظروف المثلى يمكن التحول من فرض الضرائب على الدخل إلى ضريبة تصاعدية على الاستهلاك (المثال الأكثر بساطة لهذا يتلخص في الضريبة الثابتة التي تصاحبها إعفاءات مرتفعة للغاية). كما تحتاج الولايات المتحد بشدة إلى إصلاح بنيوي عميق لنظامها التعليمي، وإزالة العقبات التي تحول دون إدخال التكنولوجيا وتعزيز المنافسة.
الواقع أن التكنولوجيات الجديدة تعرض إمكانية تيسير إعادة تدريب وتجهيز العاملين من كل الأعمار إلى حد كبير. ومن الواضح أن أولئك الذين ينادون بإعادة التوزيع من خلال عجز ضخم في الميزانية الحكومية يعانون من قِصَر النظر. ففي ضوء العوامل الديموغرافية المعاكسة في العالم المتقدم، وتباطؤ الإنتاجية، والتزامات التقاعد المتزايدة الارتفاع، يصبح من الصعب للغاية أن نعرف إلى أي ارتفاع قد تحلق مستويات الدين في السماء.
تُرى هل يدرك أنصار العجز أن العبء المترتب على أي أزمات ديون في المستقبل (أو تدابير للقمع المالي) من المرجح أن يقع بصورة غير متناسبة على عاتق المواطنين الفقراء وذوي الدخول المتوسطة، كما حدث في الماضي؟ الواقع أن إعادة التوزيع البسيطة للدخل من خلال الضرائب والتحويلات وسيلة أكثر مباشرة وفعالية إلى حد كبير، ومن المؤكد أنها سوف تساعد في زيادة الطلب الكلي.
يتعين على كل من يصور الولايات المتحدة وكأنها خاسر كبير من الوضع الاقتصادي الراهن أن يتحلى بمنظور أكثر عمقا في تناول هذه المسألة. ولا شك لدي في أن أسلوب حياة الأميركيين القائم على الاستهلاك لن يُنظَر إليه بعد قرن من الآن باعتباره موضع حسد أو وموضوعا للمحاكاة والتقليد، وسوف يُنظَر إلى فشل البلاد في تنفيذ ضريبة الكربون باعتباره فشلا ذريعا. يقطن الولايات المتحدة أقل من 5% من سكان العالم، وهي تمثل رغم هذا حصة غير متناسبة على الإطلاق من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغيره من الملوثات، ويقع قدر كبير من اللوم على عاتق أبناء الطبقة المتوسطة في أميركا.
إن تصور التجارة بوصفها من الأسباب التي تغذي التفاوت نابع من منظور بالغ الضيق، والحق أن أنصار تدابير الحماية الذين يزخرفون أنفسهم بسرد أخلاقي مبتذل حول التفاوت منافقون. وعندما يتعلق الأمر بالتجارة، فإن حملة الانتخابات الرئاسية الحالية في أميركا تشكل إحراجا شديدا لجوهر الولايات المتحدة وليس سماتها الشخصية فحسب.

كبير خبراء الاقتصاد الأسبق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد.