الصين تعيد إنتاج أخطاء الغرب

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:١٠ ص
الصين تعيد إنتاج أخطاء الغرب

أدير تيرنر

يواجه الاقتصاد الصيني في الآونة الأخيرة عملية انتقالية شديدة الصعوبة. ففي سبيل تحقيق هدف الانضمام إلى الدول ذات الدخل المرتفع، كانت الحكومة محقة في استحثاث "دور حاسم للسوق". ولكن في حين تعمل المنافسة كما ينبغي لها في العديد من القطاعات، فإن الأمر مختلف في القطاع المصرفي. الواقع أن اعتماد الصين على مدى السنوات السبع الماضية على تخصيص رأس المال من قِبَل البنوك قادها إلى الوقوع في نفس الأخطاء التي أدت إلى اندلاع الأزمة المالية العام 2008 في الاقتصادات المتقدمة.
يتطلب تحقيق نمو الناتج المحلي الإجمالي السريع معدلات عالية من الادخار والاستثمار، ويكاد يكون من المستحيل أن تأتي معدلات الادخار المرتفعة نتيجة لاختيار المستهلك الحر. وبوسع الدول أن تمول الاستثمار بشكل مباشر، ولكن الائتمان المصرفي من الممكن أن يُحدِث نفس التأثير. فعلى حد تعبير فريدريك هايك في عام 1925، كان النمو الرأسمالي السريع يعتمد على "الادخار القسري" متأثرا بتمديد الائتمان المصرفي الإضافي.
وقد استخدمت كل من اليابان وكوريا الجنوبية الائتمان المصرفي لتمويل مستويات عالية من الاستثمار في فترات النمو السريع. وكانت بنوك كوريا الجنوبية المؤممة تتولى بشكل مباشر تمويل الشركات الموجهة للتصدير. وفي اليابان كانت البنوك الخاصة "موجهة" نحو القطاع القابل للتداول.
ولكن في حين كانت الحكومات تملي الأولويات العريضة للقطاعات، كانت البنوك تقرر التخصيص على أساس كل شركة على حِدة وتقدم الائتمان عبر عقود القروض، التي كانت تفرض الانضباط المالي. ولو استخدمت اليابان وكوريا الجنوبية بدلا من ذلك التمويل الحكومي المباشر، فيكاد يكون من المؤكد أن تخصيص رأس المال كان ليصبح أكثر سوءا.
ولكن في حين ساعد النظام المصرفي في اليابان في دفع عجلة النمو المذهل بعد الحرب، فقد أفضت الطفرة العقارية التي تغذت على الائتمان في ثمانينيات القرن العشرين والأزمة الاقتصادية التي تلتها إلى 25 عاما من النمو البطيء والانكماش الزاحف. وكانت الأزمة المالية العالمية عام 2008 وما أعقبها من وعكة ما بعد الأزمة تكرارا للتجربة اليابانية في دول أخرى عديدة.
مع تزايد ثراء الاقتصادات، تصبح أكثر اعتمادا على الثروة العقارية. ويرجع هذا جزئيا إلى تكريس الناس لحصة متزايدة من دخولهم للمنافسة على الملكية العقارية في مواقع أكثر جاذبية، كما يرجع في جزء منه أيضا إلى تكتل الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية والمواهب في المدن المهيمنة في الاقتصادات التي تعتمد بكثافة على الخدمات.
ولكن الحقائق واضحة أيا كانت الأسباب. إذ كان ارتفاع قيمة العقارات السبب الأكثر أهمية إلى حد بعيد وراء الزيادة التي طرأت على نسب الثروة إلى الدخل والتي ناقشها توماس بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين". وكما تُظهِر دراسة تجريبية حديثة ممتازة، "تحولت البنوك في أغلب الدول إلى شركات للإقراض العقاري في المقام الأول بحلول عام 2007".
ويقوض هذا الاتجاه الافتراض بأن البنوك تخصص رأس المال بكفاءة. فإذا كان المعروض من العقارات المرغوبة شحيحا، فقد لا يكون خلق الائتمان في بعض الأحيان مدفوعا بالتحليل العقلاني للمشاريع الاستثمارية البديلة، بل بدورات ذاتية التعزيز حيث يدفع المزيد من الائتمان أسعار الأصول إل الارتفاع، وهو ما يطيل أمد التوقعات بالمزيد من الارتفاعات، فيؤدي بدوره إلى المزيد من الطلب على الاقتراض والمعروض من الائتمان. وكما أظهر بنك التسويات الدولية، فإن دورات الائتمان والعقارات ليست مجرد جزء من قصة عدم الاستقرار المالي في الاقتصادات المتقدمة، بل تكاد تكون القصة بالكامل.
وهي القصة التي تكررها الصين منذ عام 2009. ففي محاولة للتعويض عن انخفاض الطلب على الصادرات في أعقاب الأزمة المالية العالمية، أطلقت الحكومة العنان لموجة هائلة من الاستثمار في السكك الحديدية، والبنية الأساسية الحضرية، والأملاك العقارية. وكان بوسع السلطات أن تستخدم الإنفاق العام لتمويل طفرة البناء العمراني، بالاقتراض أو طبع الأموال المطلوبة. بيد أن المسؤولين اختاروا بدلا من ذلك طفرة الائتمان المصرفي، التي دفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى الارتفاع من نحو 150% في عام 2008 إلى 250% بحلول عام 2014.
من الناحية النظرية، كان من الواجب أن يضمن تخصيص الموارد بقيادة البنوك حصول المشاريع القابلة للحياة فقط على التمويل. والواقع أن قدرا كبيرا من الاستثمار أُهدِر بالفعل: ذلك أن البنايات السكنية الجديدة الضخمة في بعض المدن من الدرجة الثالثة لن تُشغَل أبدا، كما تعاني قطاعات التصنيع الثقيل مثل الصلب والأسمنت من القدرة الفائضة المفرطة الآن. ومع اعتماد العديد من الشركات في هذه القطاعات الآن على قروض جديدة لتغطية خسائر التشغيل، تصبح الديون المعدومة الضخمة أمرا حتميا لا مفر منه.
تنبع بعض مشاكل الصين من حقيقة مفادها أن النظام المصرفي مملوك للدولة في المقام الأول، مع تسبب الارتباطات الوثيقة بين الحكومات المحلية والبنوك الريفية الإقليمية على وجه الخصوص في تقويض التقييم الائتماني المنضبط. ولكننا نعلم أن البنوك المملوكة للقطاع الخاص أيضا ترتكب أخطاء فادحة.
ففي أيرلندا، كان النظام المصرفي بالكامل مملوكا للقطاع الخاص، ولكن طفرة الائتمان والعقارات التي شهدتها البلاد قبل الأزمة تركتها مع نحو 20 ألف مسكن من العقارات المهجورة، والتي من المرجح أن تُهدَم جميعها، وكان بناؤها إهدارا تاما للموارد. وإذا علمنا أن عدد سكان الصين يعادل 300 ضِعف عدد سكان أيرلندا فسوف ندرك أن عدد المساكن المهجورة في الصين قد يصل إلى ستة ملايين مسكن.
يركز اقتصاد الصين فضلا عن ذلك على العقارات بشكل أكبر كثيرا مما كانت عليه اليابان أو كوريا الجنوبية في مرحلة مماثلة من نمو الدخل. وفي حين ركزت اليابان وكوريا الجنوبية على التصنيع، كان التوسع الحضري هدفا صريحا في الصين، وكان نظام تمويل الحكومات المحلية لديها ــ مع اعتماد المدن على مبيعات الأراضي لتغطية ميزانياتها ــ سبباً في اشتداد الانحراف نحو التنمية العقارية. وفقا لصندوق النقد الدولي، أصبح نصيب الفرد من الأمتار المربعة في العقارات السكنية في المناطق الحضرية أكبر من نظيره بالفعل في اليابان أو كوريا الجنوبية.
لقد كررت الصين بالفعل الأخطاء التي أدت إلى التباطؤ في اليابان بعد عام 1990 وإدامة الوعكة الاقتصادية بعد عام 2008 في العديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ويتعين على الصين، كمثل هذه الاقتصادات، أن تعكف على وضع مناهج تنظيمية قادرة على التعويض عن انحراف النظام المصرفي نحو التمويل العقاري المفرط.
ولكن يتعين على السلطات أن تعالج أيضا الديون الهائلة التي تراكمت بالفعل، باستخدام الموارد المالية لتمويل إعادة رسملة البنوك. ومن ناحية أخرى، من الممكن أن تساعد زيادة الإنفاق المالي على الرفاهة الاجتماعية في الحد من ارتفاع معدلات ادخار الأسر، ودعم التحول الضروري نحو اقتصاد أكثر اعتمادا على الاستهلاك.
ولكن على الرغم من الحديث عن الحوافز المالية في اجتماع قمة مجموعة العشرين في فبراير/شباط، فإن أحدث خطط الصين تميل نحو عجز مالي في عام 2016 بنسبة 3%، وهي نسبة ليست أعلى من عام 2015. ويبدو أن المسؤولين يخشون أن يؤدي اضطلاع القطاع العام بدور أكبر إلى تقويض الانضباط المالي؛ أو بعبارة أخرى، افترضوا كما افترضت الاقتصادات المتقدمة قبل عام 2008 أن المخاطر التي تتعرض لها الكفاءة والاستقرار لا تأتي إلا نتيجة للدولة المفرطة النشاط.
الواقع أنه في حين قد تكون الدول غير فعّالة وأكثر عُرضة للإغراءات التضخمية، فإن الأنظمة المصرفية الخاصة أيضا من الممكن أن تخصص رأس المال على نحو رديء، فتعمل بذلك على إدامة دورات ائتمانية تخلف من ورائها ضائقة اقتصادية عميقة. ويتعين على الاقتصادات المتقدمة والصين معا أن تعمل على تطوير نظريات وسياسات تدرك أن البنوك مختلفة، وأن الحجة لصالح المنافسة في السوق الحرة ــ الصالحة في قطاعات اقتصادية أخرى ــ لا تنطبق عليها.

الرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة وعضو سابق في لجنة السياسة المالية في المملكة المتحدة، ورئيس مجلس إدارة معهد الفكر الاقتصادي الجديد.