دونالد ترامب سليل روما القديمة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٣/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:٢٥ ص
دونالد ترامب سليل روما القديمة

فيليب فريمان

تتفرد الشعبوية في السياسة الأميركية بتاريخ طويل وزاه، من هيوي لونج على اليسار وجورج والاس على اليمين إلى روس بيرو في زمن أقرب إلى الوقت الحاضر (1992)، ثم دونالد ترامب اليوم. بيد أن جذور الشعبوية تمتد مسافة أبعد كثيرا في الزمن ــ أكثر من ألفي سنة ــ إلى بداية نهاية الجمهورية الرومانية.
كانت الجمهورية الرومانية على مدار القسم الأعظم من تاريخها تحكمها عائلات سياسية عريقة ووسطاء السلطة الجديرين بالثقة والذين كانوا يعرفون كيف يحملون جماهير الناس على البقاء على الخط المرسوم لهم. وكانت الانتخابات تعقد ولكنها كانت مصممة عمدا بحيث تعطي الطبقات الحاكمة نصيب الأسد في الأصوات الشعبية. فإذا اختارت الأرستقراطية الرومانية التي كانت تصوت أولا رجلا لمنصب ما، فكان المسؤولون لا يكلفون أنفسهم في أغلب الأحيان عناء إحصاء أصوات الطبقات الدنيا.
ومن حين إلى آخر، كان المزارعون الساخطون، وأصحاب الحانات والفنادق والمطاعم، وسائقي الحمير، ينهضون للضغط على حكامهم لإعفائهم من الديون ومنحهم صوتا حقيقيا في الحكومة، ولكن مثل هذا الثورات كانت سرعان ما تُخمَد ببذل الوعود بأوقات أفضل في المستقبل واستئجار عدد قليل من المصارعين خارج أوقات العمل لتلقين مثيري الشغب درسا عنيفا. وفي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، حاول الإخوة جراكوس من الطبقة الأرستقراطية إحداث ثورة سياسية من الداخل، فكانت النتيجة مقتلهم على أيدي النبلاء المحافظين.
وكان الرجل الذي أسقط النظام في نهاية المطاف نبيلا ثريا طموحا اسمه بوبليوس كلوديوس بولتشر، وهو الخطيب المفوه المهيج للدهماء الذي رفض اللعب وفقا للقواعد. كان كلوديوس غريب الأطوار دائما ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته إلى الحد الذي جعله صادما ومسليا لعامة الناس في روما. وفي شبابه كان يحرض قوات صِهره على التمرد. وعندما أسره القراصنة، شعر بإهانة شديدة إزاء الفدية الصغيرة التي قبلوها لإطلاق سراحه.
لم يكن أي شيء مقدسا في نظر كلوديوس. وكلما ازداد سلوكه جرأة كان حُب عامة الناس له يزداد. ففي روما على سبيل المثال، ارتكب كلوديوس، الذي اشتهر بكونه زير نساء، جريمة تدنيس المقدسات عندما ارتدى ملابس النساء وتسلل إلى احتفال ديني للنساء فقط لتكريم الإلَهة بونا ديا، بهدف إغواء بومبيا زوجة يوليوس قيصر. ودفعت الفضيحة قيصر إلى تطليق بومبيا، وتناقل الناس العبارة الساخرة: "يبدو أن زوجة قيصر أرادت أن تكون وراء الشكوك".
وبعد إفلاته من العقاب بتوظيف فريق قانوني كبير وتقديم رشاوى سخية، دخل كلوديوس عالَم السياسة في محاولة لضمان الحصول على الاحترام الواجب للطبقة الحاكمة، التي سرعان ما رفضته باعتباره مهرجا. وما لم يدركه منتقدو كلوديوس هو أنه كان ذكيا، وعاقد العزم، وعلى اتصال وثيق بإحباطات عامة الناس.
بعد رفض النخبة له، بدأ كلوديوس يكسر كل القواعد في سعيه إلى السلطة. فتخلى عن مكانته بوصفه نبيلا وانضم رسميا إلى العوام من سواد الناس، وأنزل نفسه منزلة الزعيم للطبقات العاملة الغاضبة في روما. وباستخدام جاذبيته الطبيعية، وخطابه الناري، وفطنته الحادة في كيفية تأليب ساسة المؤسسة الحاكمة ضد بعضهم بعضا، شق طريقه بقوة في عالم التشريع، فأسس لأول تشريع في التاريخ الغربي يقضي بتوزيع الحبوب بالمجان وبشكل منتظم. وقد زوده هذا بعدد كبير من المريدين والأتباع بين عامة الناس، وخاصة أولئك الذين فقدوا وظائفهم في الاضطرابات الاقتصادية الأخيرة. وأصبح كلوديوس ملك الشوارع الرومانية، وأطلق العنان لانتفاضة شعبوية لم تشهد لها الجمهورية مثيلا من قبل.
ولم يكن لدى المنتمين إلى الطبقات الحاكمة في روما أدنى فكرة عن كيفية السيطرة على كلوديوس، الذي ظلوا على احتقارهم له. حتى أن الخطيب الشهير والسياسي الموالي للمؤسسة شيشرون أبدى امتعاضه الشديد قائلا: "إن كان من المحتم أن تتهدم الجمهورية، فلتسقط بيد رجل حقيقي على الأقل ".
في سعيه إلى الانتقام دَبَّر كلوديوس لنفي شيشرون ووضع الخطط للارتقاء إلى قمة الهرم السياسي. وخلال حملته للفوز بمنصب البريتور، الحاكم المنتخب الذي كانت مرتبته تالية مباشرة للقناصل الحاكمة في روما، تأجلت الانتخابات مرتين بسبب القتال في الشوارع بين أتباعه وفصيل من عدوه أنيوس مايلو. وعندما تصادف والتقى كلوديوس وماليو على طريق أبيان، نشبت معركة بين حرس الرجلين، وأصيب كلوديوس إصابة خطيرة. ورأى ماليو أن خصما ميتا أقل خطرا من خصم حي وغاضب، فأمر رجاله بالإجهاز عليه.
ولكن برغم مقتل كلوديوس، ظلت القوى الشعبوية التي أطلق لها العنان نابضة بالحياة، وسرعان ما وجدت أبطالا جدد، وأبرزهم قيصر. ووقف المنتمون إلى الطبقات الحاكمة ذاهلين وعاجزين وهم يشاهدون السيطرة على الدولة التي أداروها لقرون من الزمن وهي تفلت من بين أيديهم.
في عام 49 قبل الميلاد، أغرق يوليوس قيصر روما في حرب أهلية دموية. وفي أعقاب اغتياله في منتصف شهر مارس اندلعت ثورة دمرت إلى الأبد البقية الباقية من القوة لدى الطبقات الحاكمة. ونشأت إمبراطورية استبدادية، واختفت الجمهورية الرومانية إلى الأبد.

فيليب فريمان: مترجم كتاب "كيف تفوز بالانتخابات: دليل قديم لساسة العصر الحديث"