حرية التعبير والمحظورات الدينية والأخلاقية!

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٩/يوليو/٢٠٢٠ ٢٠:٣٢ م
حرية التعبير والمحظورات الدينية والأخلاقية!

بقلم: علي المطاعني
في الوقت الذي تُتاح فيه مساحات واسعة من حرية التعبير في وسائل الإعلام المختلفة والتواصل الاجتماعي في السلطنة، إلا أنّ ذلك لا يجب أن يتحوَّل إلى جَلدٍ سلبي للذات يخرج عن الأصول المُتعارف عليها مجتمعيا في النقد البنّاء والعفيف، والذي يراعي المُسَلّمات الأخلاقية الرفيعة المُستمدة من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي حرَّم القذف والسب والتجريح والإهانة والتركيز على الأمور الشخصية والعائلية والأسرية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في الكثير من المعطيات التي تضبط هذه الممارسات من خلال الأُطر والتشريعيات والتراخيص ومراقبة ذلك؛ تلافيا لأي انفلات قد يدمّر الكثير ممّا تمَّ بناؤه ويزعزع الثقة في أي عمل وطني، فهذه الغوغائية لا يجب أن تستمر بدون حدود تضبط إيقاعاتها على نحو صحيح وتؤسس لمنهجيات سليمة في النقد لا تخرج عن الأطر والآداب المعروفة.
فحركة التغييرات والتطوير في مفاصل العمل وغيرها من الأمور الطبيعية التي تحدث في الدول والحكومات العربية ولا ضير في ذلك، لكن أن يتبعها تنمّر وتهكمات واسعة فهذا أمر جلل يُثير الكثير من الدهشة للاستنتاجات الغريبة وغير الدقيقة وحالة التشفي غير الواقعية التي تصاحب مثل هذه الأمور بشكل مبالغ به لا يمت للواقع بصلة ولا يدع استشرافا للنقد البنّاء أو الإصغاء إليه حتى إذا اختلط الحابل بالنابل بدون أي ضوابط.
فإذا ألقينا نظرة فاحصة على مَن يُعيِّن المسؤولين في الجهات الحكومية ومجالس الإدارات وغيرها من أجهزة الدولة، نجده هو المشرّع وصاحب القرار وليس المسؤول نفسه مَن يُرشح نفسه لتولي مجلس إدارة هذه الجهة أو تلك الشركة، وإذا تراكمت المسؤوليات والمناصب فذلك ليس من اختصاصه أو بيده وإنما من كلّفه بذلك، فلا يجب أن نحمّله أوزار ما تم تكليفه به.

في المقابل ليس بمقدور أي مسؤول أن يرفض مسؤولية أو يتخلّى عن أدائه دورا كُلِّف به، كأحد أسس البروتوكولات الرسمية أو كعُرف اجتماعي وأخلاقي متى ما استطاع ذلك صحيا واجتماعيا، وهو ما يجب أن يتفهّمه الكثيرون، فمثل هذه المسؤوليات ليست اختيارية في دولنا وليس بالإمكان الرفض أو عصيان الأوامر الصادرة والنافذة.
فاليوم ليس هناك من يريد الأعباء أو يسعى لها، وليس الغرض دائما ماديا أو وجاهيا كما نعتقد، وأي منصب ومسؤولية هي تكليف قبل أن تكون تشريفا، فلا بد أن نفهم الأمور في سياقها الصحيح ووفق طبيعة العمل وأمر التكليف، فهذا الأمر من قبل ومن بعد لصاحب الأمر، فلا يجب أن نحمّل الأمور أكثر مما يجب.

فالذي يحدث للأسف فيه الكثير من الشبهات وانتهاك لحدود الله في سوء الظن والغيبة والنميمة التي نهى المولى عز وجل عنها في كتابه الكريم في الكثير من الآيات والمواضع، وكأحد الأخلاقيات التي علينا أن نتسلح بها في كل تعاملاتنا وتعاطينا مع الواقع باعتبارها هي تمثل حقيقة الدين وجوهره، فقد قال عز قائل في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ الحجرات: 12.
فعندما نخوض في أمور الناس ونكيل الاتهامات ونعرض السيئات ونقذف بأسوأ العبارات ونتتبَّع العثرات - سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة - ونتمّر عليهم وعلى عائلاتهم إلى غير ذلك فإننا قد وقعنا في المحظورات الدينية والأخلاقية.
فما نتابعه ليس نقدا وليس بالسلوك الذي نصل من خلاله إلى حلول لما هو مطروح، بل يدفعنا جميعا إلى حالة من الوجوم، بل يسوقنا صاغرين إلى مزبلة الفتن، فهل يسرنا جميعا أن نجد أنفسنا في هذا المعترك المؤسف باسم النقد وباسم إصلاح الحال وذات البين في وقت معا، بالقطع هذه الفوضى لن توصلنا إلا إلى تلك الحالة الصفرية والتي ما بعدها غير الندم على إطلاقنا للسان بغير ضوابط، وعلى هوى النفس الأمّارة بالسوء. هنا يمكننا القول بأننا قد سمحنا للشيطان أن يقودنا ونحن في غفلة أو في سكرة، سقط القول وبذئ المنطق.
ليعلم الجميع أن هناك بونا شاسعا ما بين النقد وما بين الهدم، تأكيدا لحقيقة أن ما فعله ليس نقدا بل هو هدم صريح لكل شيء جميل في حياتنا، أما النقد فله أصول وقواعد ومبادئ وأخلاقيات ومسَلّمات وبديهيات، من لم يلمّ بتلك القواعد فالصمت أولى له وبه.
وينبغي أن يكون واضحا بأن الكلمات يجب أن تُنتقى بعناية وبقدر نمنعها من أن تغدو كالشفرة أو كالخنجر حادة بحيث تُحدِث جرحا نازفا عندما تلامس الطرف المستهدف بالنقد، بل عليها أن تغدو كزهرة مقبولة ومرحّب بها وإذ هي مبتعدة عن السب الشتم، ثم إن علينا أن نركز على القضية لا على الشخوص، وأن ننتقد الأداء العام لهم وليس ملامحهم وهيئتهم ومأكلهم ومشربهم وأسرهم، ذاك أمر لا علاقة لنا به ولا ينبغي أن يكون أبدا محور اهتمامنا.
وتأتي بعد ذلك كله الموضوعية والتسلسل في استعراض الإخفاقات المهنية بتحليل منطقي رصين، عندها سنصل إلى حلول للقضية بمشاركة الجميع بطبيعة الحال وهم على ذات النهج القويم.
نأمل من الجميع وكل الذين آلوا على أنفسهم امتطاء جياد النقد الجامحة التريُّث في اختيار نوع الجواد، وليكن هادئا ووديعا ليتسنّى لنا المرور بسلام عبر تلك الحقول ذات الأشواك والحُفر. نحن بحاجة للنقد فعلا لتقويم الأداء العام وتعديل الخُطى أحيانا، وبما أنّ الأمر كذلك لنجعل هذا النقد مقبولا وبنّاء لا متهورا وفظا.