محمد محفوظ العارضي
إن الربط بين الأمن الاقتصادي لأي أمة وبين أمنها القومي وما يتطلبه من مناعة وقوة في مواجهة التحديات، بات من أولويات وضرورات المرحلة، خاصة بعد حالة عدم الاستقرار واستشراء النزاعات الإقليمية والدولية التي تشهدها أكثر من ساحة على صعيد العالم.
صحيح أن العلاقة بين اقتصاد قوي وأمة قوية هي علاقة قديمة، لكن المستجدات تستدعي إعادة إحيائها والتركيز على تحقيقها باعتبارها شرطاً أساسياً لعبور هذه المرحلة التي جاءت بعاملين متلازمين حددا سماتها وطبيعة مهماتها.
العامل الأول: سياسي، وهو عودة الصراع بين المعسكرين التقليديين الغربي والشرقي، واستخدام الساحة العربية كحلبة لخوض هذا الصراع. لقد تزامنت هذه العودة لصراع القطبين مع حالة من التمزق والتفكك في البنية الاجتماعية والثقافية في بعض البلدان العربية، والتي كانت سبباً للنزاعات الإقليمية التي تُخاض بالوكالة في أكثر من بلد عربي.
العامل الثاني: اقتصادي، فالعالم بأسواقه وبنيته الاقتصادية كافة، لم ينهض من تأثيرات الأزمة المالية بعد، بل لم تتوقف هذه الأزمة من التعبير عن ذاتها في شتى الساحات بأشكال مختلفة من الأزمات الارتدادية والتي تراوحت ما بين تباطؤ النمو الاقتصادي في البلدان المنتجة، وبين بوادر تشكل أسباب جديدة لأزمة جديدة لا يمكن فصلها عن سابقتها من حيث الأسباب وقوة التأثير. وقد بدأت تجليات هذه الأشكال الجديدة من الأزمات في ضعف القدرة لدى البلدان الصناعية على استيعاب إنتاج العالم من النفط، فكان ما شهدناه من تدنٍ غير مسبوق للأسعار مما أثر على موازنات الكثير من الدول.
إن تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين، تجمع على أننا على أبواب مرحلة تتسم بالركود وتباطؤ النمو وازدياد حدة الفقر والتفاوت الاجتماعي في البلدان الفقيرة والناشئة والحديثة على حد سواء، مما ينذر برفع احتمالات نشوء نزاعات جديدة قد تسببها الرغبة المتزايدة لدى الكثير من مراكز القوى الاقتصادية في تصدير أزمتها خارج حدودها.
إن التزامن بين هذه العوامل يجعلنا أمام مرحلة تاريخية في غاية الحساسية تحتاج إلى فكر جديد لتفكيك عواملها وتحديد سبل تجاوزها. هذا الفكر -ولكي يؤدي دوره التاريخي في النقد والبناء- يجب أن يتسم بالجرأة والشجاعة في التحليل واختراق الحواجز المعرفية التقليدية. كنا نظن أن حالة العالم لن تصل مرةً أخرى إلى هذا المستوى من التهديد الخطير الذي قد يغير ملامح خريطته التقليدية، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وما تبعها من تفاهمات مباشرة وضمنية بين كافة القوى الدولية الأساسية حول مستقبل العالم.
لكن واقع الحال اليوم، أثبت أن المستقبل لا يبنى بالتمنيات والرغبات فقط حتى لو كانت صادقة في دوافعها ومخلصة في فعلها، فالتركيبة الاقتصادية والسياسية باتت أكثر تعقيداً وتداخلاً في مرحلة العولمة وانفتاح الأسواق حيث ارتفع مستوى التأثير المتبادل بينها سلباً كان أم إيجاباً. وبناء عليه يجب أن نرفع مستوى تصوراتنا للغد، وأن نغوص أكثر في عمق هذه التركيبة للبحث عن سبل تعزيز أمننا الاقتصادي والوطني معاً.
ولأن السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد، ولأن البنية السياسية والثقافية والاجتماعية وما تنتجه هذه البنية من تحالفات وشراكات وسياسات داخلية وخارجية، تصاغ وفق قوة الاقتصاد ومكانته العالمية، علينا البدء بطرح سلسلة من التصورات لمستقبل اقتصادي أكثر مناعة ليس عصياً على الأزمات فقط، بل ويساهم في الوقاية منها أيضاً.
أولاً: التركيز على الإنتاج والصناعات التحويلية بالاعتماد على الموارد الوطنية للدخل. إن تحقيق هذه الخطوة يتطلب تبنياً واسعاً لمشاريع البحث العلمي وبناء مراكز متطورة لهذه الأبحاث توظف فيها أفضل العقول والمواهب في شتى المجالات. القاعدة العلمية والمعرفية لأي بنية وخاصة الاقتصادية، هي ضمانة قدرة أي اقتصاد وطني على شق طريقه نحو التطور الصناعي الإنتاجي والحد من استيراد السلع الأساسية التي قد تضع العملة الوطنية رهينة لانعطافات الأسواق العالمية.
ثانياً: إيجاد صيغة جديدة عملية لتوصيف العلاقة بين القطاع المالي والهيئات التشريعية الرسمية المختصة، فلا يجوز أن نبقى أسرى أحد الخيارين: إما الحرية المطلقة للأسواق، وهي التجربة التي ثبت فشلها في أعقاب الأزمة المالية الأخيرة، وإما مركزية السوق، وهو الذي ثبت عدم فعاليته أيضاً في نهايات القرن الفائت.
إن التاريخ لا يجب أن يكرر نفسه، لأن في التكرار إقصاء للوعي البشري. لقد آن الأوان لتبني مبدأ المركزية الديمقراطية في علاقة المؤسسة التشريعية مع القطاع المالي والقطاع الخاص على وجه التحديد. هذا المبدأ، ولكي يؤدي مهمته في بناء هيكل اقتصادي متين، يجب أن يتم بالشراكة والتعاون ما بين القطاع الخاص وممثلي المؤسسات الرسمية ذات العلاقة. كما أن طرح هذا المبدأ لا يأتي في سياق الوسطية التوافقية لإرضاء طرفي العلاقة، بل لإغناء مسيرة الاقتصاد من خلال الشراكة الواعية والمسؤولة بين الطرفين.
إن حماية المستقبل الاقتصادي يتم عبر تبني مفاهيم الاستدامة في التمويل، فبمقدار ارتباط التمويل بمشاريع إنتاجية واستثمارية حقيقية تنسجم مع احتياجات السوق المحلية والإقليمية، بمقدار ما سنحقق أكبر فائدة من السيولة المتداولة في السوق.
إن انشغال العالم في معالجة نتائج الصراعات لن يلغي أسبابها. ويبقى أن نقول إن الاستقرار الاقتصادي للعالم، قد لا يؤدي بضربة واحدة لاستقراره الأمني، لكنه يشكل مدخلاً أساسياً لهذا الاستقرار الذي سيساهم من خلال التنمية العادلة والشاملة في القضاء على الجذور التي تغذي الحروب والصراعات.
محمد محفوظ العارضي
رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العماني