عمّان - ش- العمانية
أكد أستاذ الأدب العربي وأدب المغرب والأندلس الدكتور صلاح جرار أن الدارسين للتراث الأندلسي اعتنوا بما خلّفه العرب من حضارة عظيمة ما زالت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا في خزائن العلم الزاخرة بمؤلّفات الأندلسييّن ذات المجالات المتنوّعة، والآثار العمرانية البديعة مثل قصر الحمراء بغرناطة والمسجد الكبير في قرطبة والجيرالدا في إشبيلية. ولكن في غمرة انشغالهم بالمستوى الحضاري الرفيع الذي بلغه الأندلسيّون في العمران والهندسة والطب والموسيقى والفلاحة والصناعة وسائر العلوم، غابت عن أنظارهم بعض جوانب الحضارة الأندلسية، أو كان التفاتُهم إليها التفاتا عابرا، لقلة ما ورد عنها من معلومات في المصادر الأندلسيّة.
جاء ذلك في إطار محاضرة للدكتور جرار أقيمت في المنتدى العربي حول مضامين كتابه الجديد "جوانب منسية من الحضارة الأندلسية"، حيث ناقش وعدد من المثقفين والأكاديميين العرب والأسبان، عبر الاتصال المرئي، أبعاد التجربة الحضارية الأندلسية وأصداءها في المعرفة الإنسانية
وقال جرّار أنه وقف في كتابه على جوانب لافتة للنظر تمثل في مجموعها إنجازا حضاريا أندلسيا يتكامل مع المنجز الحضاري المشهور، في إطار أن كل إنجاز بشري فردي أو جمعي، مادي أو معنوي، عملي أو نظري، يحمل إضافة للمنجز البشري السابق أو تطويرا له، ويصب في خدمة الفرد والمجتمع وبني الإنسان، وله انتشار عبر المكان أو الزمان أو كليهما.
ووضح جرار أنه اعتمد في كتابه على ما ورد متفرقا في المصادر التاريخية وعلى صدى تلك الجوانب وظلالها في النصوص الأدبيّة من شعر ونثر وموشحات، وهي مصادر مهمة تساعد في تجلية صور الحضارة الأندلسية، وتعزز وظيفة مهمة من وظائف الأدب هي تصوير حياة المجتمعات والشعوب عن قصد أحيانًا وعن غير قصد في أحيان كثيرة.
ومن الجوانب الحضارية التي يتناولها هذا الكتاب: صور مدهشة من مجتمع المعرفة، ونموذج من الأنظمة والممارسات السياسية الاقتصادية المتقدّمة، واستعمال الأندلسيين للعربات، ومصارعة الثيران في الأندلس، وقوانين المحافظة على البيئة التي كشفت عنها كتب الحسبة، وأسبقية الأندلسيين في استخدام خيال الظل، وقبة عباس بن فرناس الفلكية، وتدريب الطيور على الكلام، والرقص على الحبال، واستخدام البارود والمدافع، والحركة العلميّة في قرطبة في عصر الخلافة ودورها في حوار الثقافات. ووقف الباحث أيضًا عند قضايا المرأة من خلال مبحثين: الأول عن شخصية المرأة الأندلسيّة من خلال شعرها، والثاني عن كريمة المروزية شيخة علماء الأندلس في القرن الخامس الهجري.
نموذج حضاري وفكري
من جهته، قال الأمين العام للمنتدى د. محمد أبو حمّور إن التجربة الحضارية الأندلسية من أهم تجارب التاريخ العربي والإسلامي والعالمي؛ بوصفها نموذجًا حضاريًا وفكريًا متقدِّمًا تجلّى في مجالات استثمار التعدّد والتنوّع الثقافي في المجتمع، وإعلاء شأن العلم والعلماء، وتشييد الصروح الثقافية والعلمية والحضارية. كما أنها تشتمل على نماذج المشاركة الحضارية والتعدد الثقافي بين العرب والأمازيغ والإسبان.
وأكد الأمين العام لمنتدى أصيلة، محمد بن عيسى، أهمية بعض التعاريف في وصف التجربة الحضارية الأندلسية بأنها لم تكن عروبية وإسلامية وحسب، ولكنها اتسعت وتعمقت لتصبح ذات محتوى إنساني عظيم. وأضاف أن الحديث عن الأندلس لا يكتمل دون البُعد المغربي مما كان يطلق عليه سابقًا الامتداد الحضاري بين أرض الأندلس وأرض المغرب، فضلًا عن أن هذه التجربة اتسمت بالثراء والابتكار وهناك الكثير مما أينع في الأندلس وأكسبها خصوصيتها ولم يكن مما عُرف بالمشرق.
وتوقف بن عيسى عند بعض الأوجه المضيئة في الحضارة الأندلسية، ومنها على سبيل المثال الاجتهادات الفلسفية المتقدمة التي قام بها فلاسفة الأندلس مثل ابن رشد وابن طفيل وغيرهما، والموسيقى التي يُقال إن عباس بن فرناس هو أول من كتب الموسيقى السولفيجية المتعارف عليها، والمقامات الأندلسية التي قامت على أساسها مقامات الموسيقى الغربية الكلاسيكية، والزراعة التي كانت مزدهرة إيبيريًا ومغربيًا وما تزال مصطلحاتها تُستعمل في اللغات اللاتينية مما يتعلق بالري والنباتات والحرث والمزروعات والحياة الاجتماعية التي لا نعرف عنها الكثير، ومما احتفظ به منها المهاجرون إلى تطوان وشفشاون وفاس، ثم بعد ذلك الموريسكيون القادمون إلى الرباط وسلا في المغرب.
وشارك في هذا اللقاء خوسيه ماريا دابو كابرا، الذي أكد أن هذا التراث المشترك يستحق أن نستعيده جميعًا، معتبرًا جهود جرّار البحثية تصب في هذا المجال، ضمن سلسلة من الجهود التي ساهمت فيها أجيال من المستعربين والمستشرقين الإسبان مثل ميغيل آسين بلاثيوس (1871-1944)، وإيميلو غارثيا غومث (1905-1995)، إلى جانب الباحثين المغاربة والمشارقة وفي العالم، مما يؤكد تطور الاهتمام بالتراث الأندلسي لدى هؤلاء ولدى المثقفين والأدباء في الثقافة الإسبانية الحديثة والمعاصرة التي شهدت خطوات متسارعة في زيادة الاهتمام بالدراسات الأندلسية على المستوى الجامعي والبحثي الأكاديمي منذ ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته.
دور المرأة في العصر الأندلسي
وقال د.محمد سعيد حسب النبي، أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة أكتوبر بمصر، إن هناك حاجة إلى مزيد من كشف الجوانب عن دور المرأة في العصر الأندلسي، وخاصة في الإجابة عن السؤال حول ما حدث في العصور اللاحقة وأدى إلى تراجع هذا الدور. واقترح أن تكون هناك توصية من المنتدى إلى وزراء التربية والتعليم والتعليم العالي في الدول العربية لإضافة كتاب مرجعي ضمن المناهج لتعزيز القيم التراثية والاعتزاز بالتراث بما فيه التراث الأندلسي.
ودعا الأكاديمي والمحقق العراقي د. بشار عواد معروف في مداخلته، إلى الاعتبار بما جاء عن الإنجاز الحضاري الأندلسي في كتاب جرّار والتفكر بالمجد الذي كانت عليه حضارة العرب مما يدفع ما دخل عليها من شعوبيات ومتاهات العولمة في عصرنا الحالي؛ مشيرًا إلى أن بحوث الكتاب اتسمت بجمال العرض من خلال أسلوب أدبي قائم على البحث العلمي الرصين.
وأشار أستاذ النقد والأدب العربي والحضارة الإسلامية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله، د.عبد الله الغواسلي المراكشي، إلى قضية البكاء على الأطلال وتمجيد الذات عند دراسة أدبيات الحضارات، وهي تقنية لجأت إليها الأمم التي عانت من أزمة حضارية، ومنهم الأوروبيون أنفسهم، بدافع استشراف الأمل في الناشئة من أجل انطلاقة حضارية جديدة.
وأشادت الباحثة والمحققة الأكاديمية د.ابتسام الصفار بمنهج جرار في البحث، وما أبرزه من تجليات حضارية في إبداعات الأندلس المتنوعة في العلوم والفنون والآداب.
وتناولت الباحثة في الأدب الأندلسي هدى الشمري أسبقية الأندلسيين في حقول العلوم والتكنولوجيا والابتكارات، مؤيدة كلامها بما ورد في بعض المصادر العربية من تأكيد على نشاط أهل الأندلس وإقبالهم على تعلم العلوم واكتساب المعارف.
وبينت الباحثة في الدراسات الأندلسية وتاريخ الاستشراق د. رشا الخطيب من جانبها أن المشرق اليوم يشهد اهتمامًا أكاديميًا جامعيًا في دراسة حضارة الأندلس، وهنالك العديد من أعلام الباحثين والأكاديميين والمؤتمرات والندوات في هذا المجال، ولم تعد الصورة السابقة عن ضآلة الاهتمام بدراسة الأندلس موجودة. كما أشارت إلى المنهج العلمي الاستقصائي لكتاب جرار وجهده في التنقيب والبحث المدعم بالمصادر والنصوص والذي لم يتأثر بالميل العاطفي المعتاد تجاه الأندلس.
مستعربات إسبانيات
وذكرت رئيسة قسم اللغة الإسبانية في الجامعة الأردنية د. رناد المومني، أن هناك أعمالًا لمستعربات إسبانيات معاصرات عنيت بالوجود النسوي في الأدب الأندلسي، مما يؤكد دور المرأة الأندلسية في العلم والإبداع ومشاركتها في الحياة الثقافية.
وأشار أستاذ الأدب العربي في الجامعة الهاشمية د. عمر الفجاوي إلى القضية الجدلية المتعلقة بما استقر في الأذهان حول أثر المشرق في الأدب الأندلسي؛ مشيرًا إلى أن كتاب جرار لا يؤكد هذه الفكرة بما أورده من نماذج أدب الأندلس وخصوصيته في بيئته.
واختتمت أستاذة الأدب العربي د.شيرين جاد الله المداخلات بقولها: نحتاج اليوم أن ندرك أن الجوانب المنسية من الحضارة الأندلسية تؤكد أن الحضارة كامنة في الإنسان أكثر من الزخرف والبنيان، ويحتاج العالم العربي اليوم بشدة أن ينجز كما أنجز الأندلسيون حضارة عظيمة وكما إنجازات غيره من الحضارات ليثبت جدارته وتميزه.