بقلم: علي بن راشد المطاعني
في ظل المعطيات الراهنة والأوضاع الاقتصادية والصحية الصعبة التي غيّرت الكثير من المفاهيم الحياتية وجعلت الحكومات في دول العالم تُعيد النظر في الكثير من السياسات والخطط والإجراءات بما يحقق مصالح شعوبها ويأخذها إلى بر الأمان دون أي منغصات تُضاف إلى ما تعانيه أصلا، فإن على الحكومة أن تفكّر بحلول عملية أكثر واقعية في التعاطي مع متطلبات المرحلة القادمة خاصة فيما يتعلّق بالاعتماد على الذات في كل المناحي الحياتية ومنها العمالة الوطنية التي تتصاعد نبرات صوتها في الفترة الراهنة مطالبةً بفرص عمل تراها متاحة لغيرهم، وهم الأحق بها بالقطع، ولديهم من المؤهلات والقدرات ما تتفوق به على القابعين على عروش الوظائف إياها.
فهذا الواقع يضع الحكومة أمام خيارات ليست صعبة إذا ما توفرت الإرادة والرؤية الواضحة لمعالجة هذا الملف لكي لا يتضخم بمرور الوقت مع تعارض المصالح وتضاربها بين معارضي سياسات الإحلال وبين المجتمع المتعطش أن يرى أبناءه تُتاح لهم فرص الحياة الكريمة في بلادهم كغيرهم شعوب كوكب الأرض، وأن تُتاح لهم مجالات يشغلها غيرهم في وضح النهار، وتوفير فرص عمل لهم كأحد أهم أساسيات الحياة الكريمة، فإدارة هذا الجانب يشكّل أكبر تحدٍ للحكومة التي عليها أن تحسم الأمر باختيار واحد، إما أن تمكّن المواطنين في كل مفاصل العمل في الدولة خاصة في هذه المرحلة الدقيقة كجزء من خطة الاعتماد على الذات واجبة الاتباع كأمر واقع في الكثير من الدول، أو أن تواجه الواقع بكل تحدياته، الأمر الذي يفرض إعادة التفكير في سياسات الإحلال والتعمين في الدولة وبما يمكّن أبناء الوطن من تولي مسؤوليات العمل في كل المستويات؛ فالأوضاع الاقتصادية والصحية الصعبة لا تشير إلى تعافي الاقتصاد بنحو كامل على مدى خمس سنوات قادمة على الأقل، وهو ما يضاعف الإشكاليات على اختلافها وخاصة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية في البلاد.
بلا شك أن الجهود المبذولة في إدارة الموارد البشرية كانت ماضية في الفترة ما قبل "كورونا" بتراضي وتوافق كل أطراف الإنتاج وثمة توازن في إدارة المصالح المتعارضة بينهم، مع السعي إلى زيادة حجم الاقتصاد لاستيعاب المخرجات من الكوادر الوطنية، وتشجيع المبادرات الذاتية وفرض نسب التعمين وغيرها من الآليات التي تثير الكثير من الجدل بين مؤيد ورافض لها، إلا أن المرحلة القادمة وعلى ضوء الأوضاع الاقتصادية التي لا تحتمل إبقاء الوضع على ما هو عليه، لا بد من البحث عن حلول أكثر واقعية تلامس اهتمامات أبناء الوطن ولا تفرض أزمة جديدة في البلاد تضاعف من الأزمات، فإن الحكومة عليها أن تختار جانبا واحدا تعمل عليه على ضوء قدرات الاقتصاد وإمكانات السوق.
وهذا الجانب يتمثل في تمكين أبناء الوطن في الفترة القادمة بالإحلال القسري في كل مفاصل العمل في الدولة بقطاعاتها المختلفة العامة والخاصة بدون أي جدال أو نقاشات يمكن أن تفضي إلى تمييع الأمور وإرضاء رغبات إلى غير ذلك؛ فالأوضاع الاقتصادية لا تحتمل المزيد من المماطلة والتسويف في الحلول لمدة 5 سنوات على الأقل تعتمد فيها الدولة على أبنائها بنسبة كبيرة بتطبيق سياسة الاعتماد على الذات في المقام الأول، دون الالتفات لأي أمور أخرى تتناقض مع هذا التوجه.
فالاعتماد على الذات يفضي إلى حقيقة قصر العمل في كل المجالات التي تتوفر لها عمالة وطنية على أبناء الوطن والاستعانة بالأجانب في المجالات التي لا تتوفر لها عمالة مثل الإنشاءات والمقاولات الخ، أما غير ذلك فلا ينبغي السماح به.
فالإجراءات العملية تتلخص في عدم السماح للأجانب بالإقامة في البلاد لكل المهن المحظورة، على أن تستعين الشركات بالعمالة الوطنية لقضاء أعمالها بدون أي مناقشات في هذا الشأن، واضعين مصلحة الوطن العليا في الاعتبار دوما، فدون هذه الخطوة فإننا على موعد مع مشكلة كبيرة في السنوات القادمة لا نعرف مداها بالضبط.
البعض قد يرى بأن مثل هذه الخطوات سوف تقلّص حجم الاقتصاد والسوق إلى غير ذلك من مبررات ربما بعضها صحيح وبعضها يبقي الأمر على ما هو عليه، لكن هذا الخيار ضروري لإعادة ترتيب البيت من الداخل والاعتماد على الذات في تقسيم كعكة خيرات الوطن على أبنائه واختبار للذات في التعاطي مع الواقع بكل حذافيره ومعطياته مهما كانت صعبة.
فالحلول الواقعية والميدانية لا بد وأن تذهب في هذا الاتجاه في ظل كل المعطيات الواقعية التي تفرض مثل هذا التفكير أو هذا الإجراء، ومن الطبيعي أن تنخفض العمالة الأجنبية لمليون عامل لمدة خمس سنوات قادمة بسبب انخفاض الأعمال نتيجة للوضع الراهن، وفي ذات الوقت تزايد القدرات الوطنية من أبناء الوطن التي ترغب في أن تخدم وطنها ومن الطبيعي أن تجد الطريق ممهدا لها.
بالطبع يمكن تعويض نقص العمالة المتوقع من خلال اختبار ذواتنا في مواجهة الواقع وبتشجيع السياحة بشكل أكبر وترويج وتقديم تسهيلات سخية لهذا القطاع في سبيل إحداث التوازن المطلوب.
هناك من يعارض مثل هذه التوجهات لشيء في نفسه، إذ لا يمكننا أن نغيّر اتجاهات برجماتية رافضة لكل الحلول في أوقات الرخاء فما بالنا بها في أوقات الشدة، لذا فإن الإصغاء لها لن يفضي إلى حلول مثلما كان الحال قبل 40 عاما، وإلى اليوم ندور في حلقة مفرغة، لم نستطع أن نوجد حلولا عملية لإشكاليات بسيطة، نرى بأنها تحتاج إلى عمليات جراحية مؤلمة غير أنها ناجعة وشافية.
نأمل أن تعمل الحكومة على إيجاد خيارات أكثر واقعية في معالجة مشكلة قائمة عبر تمكين حقيقي لأبناء الوطن في كل مفاصل العمل والإنتاج وعدم الإصغاء للأصوات التي كانت دوما وأبدا تغرّد خارج السرب.