التحديات التي تواجه عمان.. "أهمية اصلاح الجهاز الإداري للدولة لتنفيذ الرؤية الاقتصادية "(٤)

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٠/يونيو/٢٠٢٠ ٢١:٠٢ م
التحديات التي تواجه عمان..
"أهمية اصلاح الجهاز الإداري للدولة لتنفيذ الرؤية الاقتصادية "(٤)

مرتضى بن حسن بن علي

تطوير الأجهزة الإدارية الحكومية للدول، وتحريرها من الضغوط والقيود التي تحد من فعاليتها وكفائتها، أصبحت من المواضيع التي تشغل بال المفكرين والاقتصاديين عبر العالم، بسبب التغييرات السريعة المتلاحقة في العالم، مما يتوجب على الحكومات التنبؤ بالتغييرات القادمة من خلال اختيار (المدخلات) الضرورية للحصول على "المخرجات "المطلوبة،وتطوير إمكاناتها وطاقاتها الذاتية للتوائم مع التغييرات الحاصلة.
كل ذلك يتطلب إعادة النظر بصورة جذرية في مفهوم الوظيفة العامة، وتغليب منطق الخدمة والعائد فيها على منطق السلطة.الموظف يتلقى راتبه من مجموع المستفيدين منه،أي من كافة أفراد الشعب،بالتالي هو مدين لهم ولا يملك أية سلطة عليهم، وعليه تقديم أحس وأسرع خدمة لهم،وما يقدمه ليست مساعدة منه لهم، وانما ذلك من صميم واجباته.المراجع يدفع له آجره من اجل ان يتلقى منه خدمة جيدة،كما ليس ضروريا على المراجع ان يذهب الى مقر عمل الموظف،بل له الحق ان يتلقى الخدمة المطلوبة من مكان تواجده،كل ذلك يتطلب تعميق نظام اللامركزية وجعله من أسس الجهاز الاداري للدولة الحديثة، وتفويض الصلاحيات الكافية لكل مستوى إداري، وإعادة توزيع السلطات بين الأجهزة المركزية من ناحية،ووحدات الإدارات المحلية من ناحية أخرى،بحيث تتركز سلطة اتخاذ القرارات عند المستوى التنظيمي المناسب وليس بالضرورة عند مستوى القمة.وحيث إن الموظف إنسان ومعرض لشتى انواع الإغراءات ،ومن اجل مصلحته، أصبح من الضروري تكريس مبدأ المحاسبة ثَوَابا أو عقابا وعلى كافة المستويات الوظيفية، وتقييمه حسب أدائه ونزاهته والنتائج المحققة، وعلى دوره في إبتكار أحسن الطرق لتقديم الخدمة وبطريقة فاعلة،والتحرر من القوالب الجامدة للأشكال والهياكل التنظيمية التي تؤدي الى تثبيت البيروقراطية المحِطمة للكفائة والمُشلّة للتفكير والُمهّدرة للمال العام.
الأجهزة الإدارية للدولة لابد ان تدار ايضا وفقاً للأساليب الإقتصادية وقابلة للتغيير والتطوير حسب تغير الزمن،ولذلك أصبح ضروريا تخفيض آعداد الموظفين عن طريق إستعمال الاتمتة،وتطوير مهارات وخبراتهم باستمرار،ليكونوا قادرين على إنجاز عدة أعمال في وقت واحد، وأن يتمكن المراجع بإنجاز معاملاته عن طريق الحاسوب أو الهاتف الذكي وتطبيقاته،وعندما يقل عدد الموظفين وترتفع كفائتهم وإنتاجيتهم،ترتفع مرتباتهم.
أعداد الموظفين في الجهاز الاداري للدولة، مرتفع جدا مقارنة مع المعدلات العالمية،ومن دون تقديم خدمات حقيقية وكفوءة،بل بالعكس تتصاعد الشكاوي من سوء الخدمات وبطئها.وما أصاب الأجهزة الحكومية المختلفة من ترهل لا يعود الى نقص في الاعتمادات المالية، بل يعود الى تدني المهارات المعرفية والإدارية وإنعدام المسائلة.معدل عدد الموظفين في عمان لكل الف من السكان يعتبر من المعدلات العالية جدا ويستنزف مبالغ كبيرة من الموازنة العامة.إضافة إلى ذلك، هناك أبنية ضخمة للوزارات وغيرها من الاجهزة، تم تصميمها وتشييدها ليس للحاجة الى تلك الضخامة، وإنما بسبب عدم الاكتراث للمال العام، ولأسباب نفسية،وهي الرغبة بالشعور بمظاهر الأبهة،وهي تكلف مبالغ هائلة لصيانتها،ولنفس السبب تم تعيين أعداد كبيرة من الموظفين وبطريقة عشوائية من دون الحاجة اليهم.بعض التعيينات كانت لأسباب نفسية أيضا، هناك أيضا عدد من الوزارات،لا لزوم لها، ويمكن دمجها مع وزارات اخرى، كما هناك هيئات ولجان تشكلت عبر السنين للبحث عن حلول لمشاكل محددة،عجزت الوزارات المختلفة على كثرتها وعلى كثرة إعداد المستشارين ومدراء العموم فيها،من إيجاد حلول لها.ووجود هذا الحشد الكبير من الوزارات والمجالس واللجان التي تضم عشرات الألوف من الموظفين وعجزها عن المساهمة الإيجابية في الانتاج، تحمِّل ميزانية الدولة اعباءً تفوق إمكانياتها ولا تضيف اَي عائد ذات قيمة للثروة الوطنية أو تقديم أية مساهمة في الانتاج بقدر ما تعطله.وعملية إعادة هيكلة أجهزة الدولة لا تعني فقط التقليل من أعداد الموظفين الى النصف كمرحلة أولى أو تطوير هياكلها اوإلغاء أو دمج وحدات وإستحداث أخرى فقط،بل إن العملية تمتد إلى عمق فلسفة الادارة وتشمل ثقافة العمل من جذورها وتغيير ثقافة التعيين بالطريقة المتبعة أو الإستمرار في الوظيفة مدى الحياة.الأمن الوظيفي يؤدي الى الترهل والفساد الوظيفي. تعيين الرجل المناسب للعمل المناسب اصبح ضروريا،فهناك مناصب مُنحت لأشخاص يجهلون أبجديات تلك الوظائف،وهناك مثلا، مدراء عامون للتخطيط او الموارد البشرية، وهم يجهلون أبجديات التخطيط أو المواردالبشرية.
إعادة البناء التنظيمي المناسب مع الأهداف المنشودة، يتطلب رسم سياسات شاملة لتطوير الموارد البشرية ومدى الإحتياجات الحقيقية للأجهزة المختلفة من الأفراد نوعاً وكماً،مع ضرورة إستخدام معايير موضوعية في تحديد حجم العمالة،بعيدا عن المجاملات الاجتماعية والعقد النفسية بشأن التوظيف،حيث يتراكم الأفراد في الآجهزة بشكل لا يتلاءم مع احتياجات العمل الفعلية،الأمر الذي يرفع التكلفة ويؤدي إلى إنهيار كفاءة الأداء وتفشي البيروقراطية والفساد.الجهاز الاداري هو عصب الدولة الرئيسي وسياجها الأساسي،ولذلك فإن عملية إصلاحه الشامل، يعد أمرا ملحا.
من المهم أيضا بناء جهاز اداري قادر على التجاوب والتكامل مع القطاعات الاخرى والانفتاح عليها،ومن ضمنها القطاع الخاص، والذي هو الآخر بحاجة الى إعادة بنائه وتصحيح التشوهات المتراكمة عليه وتحويله الى قطاع إنتاجي يساهم في تراكم الثروات المالية والاقتصادية والبشرية،ويلعب دوره في التنمية الشاملة.ذلك يتطلب أيضا خصخصة عدد كبير من الأنشطة الحكومية والشركات المملوكة لها وإدارتها بالأسلوب التجاري.اعادة بناء القطاع العام من جديد اصبح أمرا ضروريا، آخذين بنظر الاعتبار إن مفهوم الخدمة العامة اصبح في حالة تغير وإعادة صياغة مستمرة في ظل حتمية تخلي الحكومة عن بعض المسؤوليات الخدمية والاقتصادية لصالح القطاع الخاص،يديرها حسب القوانين الاقتصادية المتطورة والظواهر الاجتماعية المتغيرة.مجموعة كبيرة من القضايا المٌلحة تتطلب مزيدا من البحث والتفعيل ومضاعفة الاهتمام اذا ما آُريد لعمليات اعادة الهيكلة الإدارية ان تحقق ثمارها المرجوة.
النقلة الكبيرة التي حدثت في إدارة الأجهزة الحكومية في الدول المتقدمة كانت بسبب الانتقال من المنهج التقليدي للإدارة الى منهج يقتبس الكثير من أساليب ونظم العمل المطبقة في القطاع الخاص،والتي منها الاهتمام بالعميل،والاهتمام بالتكلفة والانتاجية، وتقييم العمل الحكومي وفقا للنتائج النهائية،وتبني أنظمة متطورة للمحاسبة،والإدارة المالية والبشرية وغيرها،وترتكز على الأداء المؤسسي للاجهزة الحكومية.هذا المنظور لم يتغلغل بعد في عمليات الجهاز الاداري في عمان.الوضع الحالي لهذه الأجهزة ومن ضمنها الاجهزة الرقابية، إنها لا تراقب الأداء النهائي،ولا تتابع الفعالية والجودة والنتائج.دورها التطويري محدود جدا،وجُلّ تركيزها على دورها التفتيشي.النقلة الحقيقية لاعادة الهيكلة تتطلب إعادة تشكيل الادوار بحيث تكون رقابتها رقابة اداء، ورقابة نتائج والتركيز على الإنتاجية والفعالية وعلى الجدوى،وعلى درجة الالتزام بالضوابط واللوائح الموضوعة،لآن المسؤوليةعن النتائج تتطلب التحرك بشكل أوسع وأكثر رحابة في مجال تطوير نظم عملها،ووضع النظم الداخلية الخاصة بها.الدور التطويري لهذه الأجهزة يحتاج الى المزيد من التفعيل والتعميق،بحيث ينشط دورها في تقديم مقترحات تُعين الاجهزة التنفيذية على النهوض بأدائها وعلى تحسين نظم وآليات عملها بالشكل الذي يؤدي الى تحسين الأداء النهائي.
ومن دون الإصلاح الاداري الجذري والشامل سوف يكون صعبا ان لم يكن مستحيلا، تنفيذ أية رؤية اقتصادية طموحة لعمان لتآخذ مكانتها اللائقة في هذا العالم المتغير والذي يقوم بإعادة تشكيل نفسه من جديد.