السياسة النقدية غير التقليدية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٠/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:٣٥ ص
السياسة النقدية غير التقليدية

نورييل روبيني

في ظل ما تشهده أغلب الاقتصادات المتقدمة من تعافٍ هزيل من أزمة 2008 المالية، اضطرت بنوكها المركزية إلى الانتقال من السياسة النقدية التقليدية ــ خفض أسعار الفائدة عبر المشتريات من السوق المفتوحة لسندات الحكومة القصيرة الأجل ــ إلى مجموعة من السياسات غير التقليدية. وقد ظَل النمو هزيلا برغم أن حد الصِفر الاسمي لأسعار الفائدة ــ والذي كان في السابق مجرد احتمال نظري ــ تم بلوغه وتنفيذ سياسة سعر الفائدة صِفر بالفعل. ولهذا، تبنت البنوك المركزية تدابير لم يكن لها وجود من قبل حتى ضمن أدوات السياسات قبل عشر سنوات فقط. والآن تستعد لتكرار الأمر نفسه.
وكانت قائمة التدابير غير التقليدية طويلة وممتدة. فهناك التيسير الكمي، أو المشتريات من السندات الحكومية الطويلة الأجل، بمجرد أن أصبحت أسعار الفائدة القصيرة الأجل عند مستوى الصِفر. وكان ذلك مصحوبا بتيسير الائتمان، والذي اتخذ هيئة شراء البنك المركزي للأصول الخاصة أو شبه الخاصة ــ مثل الرهن العقاري والأوراق المالية المدعومة بالأصول، والسندات المغطاة، وسندات الشركات، وصناديق الائتمان العقارية، بل وحتى الأسهم عن طريق الصناديق المتداولة في البورصة. وكان الهدف خفض الفوارق الائتمانية الخاصة (الفارق بين العائدات على الأصول الخاصة وتلك على السندات الحكومية ذات تواريخ الاستحقاق المماثلة)، وتعزيز أسعار الأصول الخطرة الأخرى مثل الأسهم والقعارات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثم رأينا "التوجيه المسبق"، الالتزام بالإبقاء على أسعار الفائدة الرسمية عند مستوى الصِفر لفترة أطول من تلك التي قد تبررها الأسس الاقتصادية، وبالتالي خفض أسعار الفائدة الأقصر أمدا إلى مستويات أدنى. على سبيل المثال، يعني الالتزام بالإبقاء على أسعار الفائدة عند مستوى الصِفر لمدة ثلاث سنوات على سبيل المثال أن أسعار الفائدة على الأوراق المالية التي قد تصل تواريخ استحقاقها إلى ثلاث سنوات لابد أن تهبط أيضا إلى الصِفر، خاصة وأن أسعار الفائدة المتوسطة الأجل تقوم على التوقعات بشأن أسعار الفائدة القصيرة الأجل على مدى السنوات الثلاث التالية. ولتحديد الأسقف، استعين بتدخلات غير مُعَقَّمة في سوق العملة لتعزيز الصادرات من خلال إضعاف قيمة العملة.
وقد نجحت هذه السياسات حقا في خفض أسعار الفائدة الطويلة والمتوسطة الأجل على السندات الحكومية، وسندات الرهن العقاري. كما عملت على تضييق الفوارق الائتمانية على الأصول الخاصة، وتعزيز سوق البورصة، وإضعاف قيمة العملة، وخفض أسعار الفائدة الحقيقية من خلال زيادة توقعات التضخم. وعلى هذا فقد كانت فعّالة جزئيا.
ولكن في أغلب الاقتصادات المتقدمة، ظل النمو (والتضخم) منخفضا بشكل عنيد. وكانت الأسباب وراء ذلك وفيرة. فنظرا لجهود تقليص الديون المرتفعة الخاصة والعامة، كانت السياسات النقدية غير التقليدية قادرة على منع الركود الشديد والانكماش الصريح؛ ولكنها لم تتمكن من جلب النمو القوي ورفع معدل التضخم إلى 2%.
علاوة على ذلك، لم يكن مزيج السياسات المعمول بها هو الأمثل. ففي حين تستطيع السياسة النقدية أن تلعب دورا مهما في تعزيز النمو والتضخم، هناك احتياج إلى السياسات البنيوية لزيادة النمو المحتمل ومنع الشركات والأسر والبنوك والحكومة من التحول إلى موتى أحياء عاجزين بشكل مزمن عن الإنفاق بسبب الديون المفرطة. وكانت السياسات المالية أيضا ضرورية لدعم الطلب الكلي.
من المؤسف أن الاقتصاد السياسي لأغلب الإصلاحات البنيوية ــ وما يترتب عليها من تكاليف مقدمة وفوائد متأخرة ــ يستلزم ضمنا حدوثها ببطء. ومن ناحية أخرى، كانت السياسة المالية مقيدة في بعض البلدان بفِعل العجز المرتفع والديون (الأمر الذي يعرض القدرة على الوصول إلى الأسواق للخطر)، وفي بلدان أخرى (منطقة اليورو، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة على سبيل المثال) بسبب ردود الفِعل السلبية ضد المزيد من التحفيز المالي، وهو ما أدى إلى فرض تدابير التقشف التي تقوض النمو في الأمد القريب. لذا، سواء شئنا أو أبينا، أصبحت البنوك المركزية ولا تزال الخيار الوحيد المتاح عندما يتعلق الأمر بدعم الطلب الكلي، ورفع معدلات تشغيل العمالة، ومنع الانكماش.
ونتيجة لهذا، أصبحت السياسات النقدية غير التقليدية ذاتها ــ الراسخة الآن منذ ما يقرب من عشر سنوات ــ تقليدية بحكم الأمر الواقع. وفي ضوء النمو الضعيف المستمر وخطر الانكماش في أغلب الاقتصادات المتقدمة، سوف يكون لزاما على صناع السياسات أن يواصلوا نضالهم منفردين ضد مجموعة جديدة من السياسات النقدية "غير التقليدية غير التقليدية".
وقد بدأ تنفيذ بعضها بالفعل. على سبيل المثال، أصبحت أسعار الفائدة السلبية ممارسة معتادة الآن في سويسرا والسويد والدنمرك ومنطقة اليورو واليابان، حيث تفرض الضرائب على الاحتياطيات الفائضة التي تحتفظ بها البنوك لدى البنوك المركزية نتيجة للتيسير الكمي بفائدة سلبية. وقد تحول صناع السياسات من العمل على كمية المال (التيسير الكمي، والتيسير الائتماني، والتدخل في سعر صرف النقد الأجنبي) إلى العمل على أسعار المال (أولا من خلال سياسة أسعار الفائدة صِفر، ثم التوجيه المسبق، والآن من خلال سياسة أسعار الفائدة السلبية). والآن أصبحت أسعار الفائدة الاسمية سلبية ليس فقط على القروض لليلة واحدة، بل وأيضا على سندات الحكومة ذات العشر سنوات. والواقع أن ما تبلغ قيمته نحو 6 تريليون دولار أميركي من سندات الحكومة في مختلف أنحاء العالم أصبح عائدها الاسمي اليوم سلبيا.

رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك.