إدمان النفط

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٩/أبريل/٢٠٢٠ ١٩:٥٤ م
إدمان النفط

د. محمد بن عوض المشيخي-

إدمان النفط مصطلح ارتبط بالدول المنتجة للنفط التي تعتمد في معظم صادراتها على النفط، مما ترتب على ذلك تعرضها للأزمات والنكسات عند نزول الأسعار إلى ما دون سعر التكلفة في بعض الأحيان. ولعل الأزمة الحالية التي تعصف بما يعرف بالدول المدمنة للنفط خير دليل على ذلك، إذ وصل سعر البرميل إلى ما دون العشرين دولارا. وتعد دول الخليج العربية والجزائر وليبيا والعراق وإيران وفينزويلا في مقدمة دول العالم التي تصنف بالدول المدمنة للنفط، وذلك لفشلها في استخدام إيرادات النفط التي تقدر بمليارات الدولارات خاصة في عقد التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة عند ما وصل سعر برميل النفط إلى أكثر من مائة وعشرين دولارا ، إذ كانت الفرصة سانحة لهذه الدول للعمل على إيجاد مصادر دخل بديلة للنفط، وذلك بتنمية القطاعات الزراعية والسمكية، والسياحية وإقامة صناعات وطنية ترفد الأسواق المحلية بما تحتاجه بدلا من الاستيراد من الخارج، وبدلا من ذلك اتجهت هذه الدول خاصة الخليجية منها إلى استثمار مئات المليارات في السندات الأمريكية والأوربية وكذلك الإيداع في البنوك الغربية من هذه الإيرادات النفطية الوفيرة. هذا فضلا عن استثمار بعض الصناديق السيادية الخليجية في مناطق خطرة وغير آمنة مثل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية وشرق أفريقيا، فقد كانت النتائج كارثية لبعض هذه الاستثمارات، إذ انتهت بخسائر كبيرة بل وصل بعض هذه القضايا الخاسرة إلى المحاكم المحلية والدولية بدون حتى استرجاع رأس المال.
كما كان الغائب الأبرز هو الاهتمام الحقيقي بالعقول وتنمية الموارد البشرية في هذه الدول النفطية، فقد أرسلت أبنائها للدراسة في أعرق الجامعات في الغرب والشرق في بداية عهدها ببيع النفط ولكن عند رجوع هذه النخب، أصبح شاغلهم الأكبر هو الحصول على المناصب الإدارية للوصول إلى كرسي الوزارة بدلا من العمل في مراكز الإنتاج والمصانع والحقول الزراعية، وذلك لتأسيس قاعدة إنتاجية ونواة حقيقية يمكن البناء عليها في المستقبل خاصة للدفعات الجديدة من الخريجين.
والمشكلة هنا تتعلق بالتخطيط فالذين أرسلوا للدراسة لم يوضع أغلبهم في مواقعهم الصحيحة وذلك لعدم وجود خطط وطنية تحتضن هذه الكفاءات وتضعها في المكان الذي يليق بها.
صحيح أن دول الخليج العربية استفادت في تحرير شعوبها من الأمية ونشر التعليم العام في كل قرية ومدينة بنجاح باستخدامها إيرادات النفط في عقدي الستينيات والسبعينيات، ثم اتجهت لتأسيس الجامعات التي يشار إليها بالبنان من حيث المرافق والمباني، بل وحتى الأساتذة المتميزين من المواطنين والأجانب، وقد خرجت هذه الجامعات أعدادا كبيرة من حاملي الشهادات الجامعية والعليا في مختلف التخصصات العلمية والأدبية ولكن مع مرور السنوات أصبحت هذه المخرجات المقدرة بمئات الآلاف في الشوارع يبحثون عن عمل ولا يجدونه لكون الجهاز الإداري للدولة قد وصل إلى الاكتفاء الذاتي من الموظفين في معظم دول المجلس. فكان من المفروض والأجدر بصناع القرار في هذه الدول التنسيق بين الجامعات ووزارات التخطيط والتجارة والصناعة والزراعة والثروة السمكية لتخريج كوادر تحتضنها المصانع والمعامل والمراكز العلمية الإنتاجية لرفد الأوطان بابتكارات وبراءات اختراع، على أن تتوفر الجهات التي تُموّل هذه الأفكار وتحولها إلى مشاريع إنتاجية لرفد الاقتصاد الوطني بمصادر بديلة عن النفط، وهو ما يعرف باقتصاد المعرفة الذي جعل من دول مثل فنلندا وسنغافورة في مقدمة دول العالم من حيث الدخل القومي والرخاء الاقتصادي.
فعائدات النفط الخليجية المستثمرة في الخارج والتي تقدر بمئات المليارات يفترض لها أن تجد طريقها للداخل لتطوير البنى الأساسية وتنمية القطاعات السياحية والزراعية والسمكية خاصة في المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان؛ والتي تحتضن الأخيرة أكثر من 8 ملايين نخلة، إذ من الممكن أن تقام العديد من الصناعات الغذائية المرتبطة بإنتاج التمور.
كما أن الرمال الذهبية في الصحاري العمانية والطقس الاستثنائي في محافظة ظفار يمكن لهما أن يشكلا العمود الفقري للاقتصاد الوطني لو أحسنّا إدارة هذه الموارد منذ فترة مبكرة.
تعد تجربة مملكة النرويج فريدة من نوعها في العالم، فقد قررت الحكومة اتباع سياسة مغايرة لما هو متبع في الدول التي تعاني من لعنة النفط؛ حيث تتمثل هذه التجربة باستخدام 4% من إيرادات النفط فقط، بينما تذهب الإيرادات الأخرى إلى صندوق الثروة السيادية للأجيال المستقبلية في هذا البلد الذي يقع شمال أوروبا، فقد وصلت أصول الصندوق النرويجي 900 مليار دولار في 2017م مسجلا بذلك اكبر صندوق سيادي في العالم.
عمانيا اعتمدت الحكومة العمانية على النفط والغاز لمدة خمس عقود متتالية في انفاقها على مختلف المشاريع التنموية وصرف الرواتب ومختلف المصروفات الجارية ، فالنفط يشكل العمود الفقري للدخل الوطني ففي عام 2017م على سبيل المثال شكلت عوائد النفط والغاز ومشتقاتهما ما نسبته 78% من ميزانية الدولة في البلاد. وعلى الرغم من ذلك هذا لا يعني بأي حال من الأحوال عدم إدراك الخبراء وصناع القرار في السلطنة، خطورة الاعتماد على مصدر أحادي وهو قابل للنضوب في مقبل الأيام وكذلك يخضع بيعه للقرارات السياسية والاستقطابات والأحلاف بين الدول. لذا كانت هناك محاولات جادة لتنويع مصادر الدخل منذ العقد الأول للنهضة العمانية، ثم تبلورت هذه الأفكار بظهور رؤية عمان 2020 التي تم الإعلان عنها في منتصف التسعينيات من القرن الفائت واستمرت لمدة ربع قرن وكان الهدف الأساسي لهذه الرؤية الواعدة والتي كانت بمثابة خارطة طريق لتنويع مصادر الدخل القومي، وتقليل الاعتماد على النفط بشكل جرئي بحلول 2020. وعلى الرغم من ذلك هناك شبه إجماع بين معظم العمانيين بأن تلك الرؤية لم تصل الى الكثير من اهدافها ، والسبب الحقيقي في ذلك يعود إلى الظروف والأقدار التي أزاحت الذين وضعوا وأسسوا لتلك الرؤية من الساحة الاقتصادية، فهناك من غيبه الموت، بينما البعض خرجوا من عضوية مجلس الوزراء؛ هنا قل الحماس لمتابعة وتنفيذ الخطة من الذين تولوا مناصب التخطيط في الحكومة وأشرفوا على التنفيذ، فقد جرت العادة في دول العالم النامي عدم الحماس للمشاريع والخطط التي وضعت من قبل أشخاص قد رحلوا عن المشهد السياسي.
ولكي لا يتكرر السيناريو السابق ونحن تفصلنا شهور قليلة عن تنفيذ رؤية عمان 2040 والتي من المتوقع أن تسهم القطاعات غير النفطية فيها بنسبة 93% من الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة بنهاية الخطة، فإن من الضرورة بمكان أن تسند هذه الخطة إلى خبراء من خارج الحكومة للإشراف عليها وتنفيذها، خاصة من الأكاديميين العمانيين في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس، وكذلك بعض الخبراء في مختلف المجالات المتعلقة بالخطة إلى جانب مجلس التخطيط والجهات الحكومية ذات العلاقة. ففريق الخبراء من خارج المنظومة الحكومية سيعمل كطرف مراقب وضامن لتحقيق أهداف الرؤية التي رسمتها اللجنة العليا إذا أعطيت له الصلاحية المطلقة. فالتنفيذ السليم لرؤية 2040 هو طوق النجاة للوطن والمواطن في هذا البلد العزيز في المرحلة المقبلة.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهير