عمان تواجه المحن بعزم وثبات

مقالات رأي و تحليلات السبت ١١/أبريل/٢٠٢٠ ٢١:٣٧ م
عمان تواجه المحن بعزم وثبات

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

يواجه المجتمع العماني حكومةً وشعبًا، واحدًا من أكبر التحديات غير المسبوقة في تاريخه المعاصر، حالُه في ذلك كحال المجتمع الدولي، إنها الجائحة الكبرى التي جعلت العالم كله من أقصاه إلى أقصاه يعلن حالة الاستنفار العام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصابين بهذا الوباء القاتل، فالمصائبُ والأزمات - على الرغم مما فيها من آلامٍ وأحزان وهلاكٍ للحرث والنسل - تعلمنا الصبر والاتحاد والتكاتف بين أفراد الوطن الواحد؛ لمواجهتها وتقليل آثارها المدمرة، وعلى وَقْع هذه الأزمات تظهر قدرة القيادات على تقديم الحلول الناجحة للإبحار بالوطن والمواطن إلى بر الأمان، بل تُبيِّن معادن البشر وطباعهم الحقيقية.
عمانيًّا واجهت السلطنة هذا الوباءَ بعزمٍ وثبات، فقد تضافرت الجهود الحكومية مُمثَّلةً باللجنة العليا لإدارة أزمة كورونا، كما امتثل المواطنون والمقيمون على هذا التراب الوطني على حدٍّ سواء، لتعليمات وزارة الصحة، وإرشادات وسائل الإعلام العمانية التي خصصت معظم برامجها للتوعية بخطورة فيروس كورونا المُستجِد، محافظين بذلك على أنفسهم وعلى الآخرين بالبقاء في المنازل حتى يأتي اليُسر والفرج الرباني، بل هناك مَنْ زاد على كل ذلك من أبناء عمان المخلصين، إذ قام هؤلاء بتسيير القوافل التي تحمل المؤن والمواد الغذائية؛ لتوزيعها على المحتاجين في مختلف مناطق السلطنة، خاصةً سكان ولاية (مَطْرَح) الذين أُخضِعُوا للحجر الصحي الكامل في بيوتهم منذ بداية شهر أبريل الجاري، وبالفعل كانت جمعية الرحمة الخيرية وفريق مَطْرح الخيري، وبمساندةٍ من شرطة عمان السلطانية، في مقدمة صفوف الدعم والإغاثة لسكان الولاية التي يقطنُها في هذه الأيام الصعبة أكثر من مائتي ألف نسمة، منهم عَشْرة آلاف أسرة عمانية، على حين يبلغ عدد الوافدين أكثرَ من مائةٍ وخمسين ألف شخص معظمهم من العُزَّاب، أما في محافظة (ظفار) فقد انطلقت مبادرة مجتمعية أخرى في مدينة صلالة تحت شعار (إطعام المحتاجين من العمال المتوقفين عن العمل)، حيث يقوم المتبرعون من أهل الخير بتوصيل وجبات الغداء بشكلٍ يومي للبيوت والأحياء التي يقطنُ فيها المحتاجون للطعام من العمالة الوافدة، كما تنطلق هذه الأيام مبادرة فريق صلالة الخيري تحت اسم (واجب)؛ لجمع التبرعات المالية والعينية لتقديم سلة متكاملة من المواد الغذائية للأسر المُعسِرة في المدينة.
وتكمن أهمية هذه المبادرات الإنسانية من الجمعيات الخيرية، والفِرَق التطوعية، والشخصيات الوطنية، والمتمثلة في إطعام الولايات المعزولة، سواءً من العمانيين أو من العمالة الوافدة، وعلى وجه الخصوص مَنِ انقطعت بهم السبل، بعد توقف مصدر رزقهم؛ بسبب إغلاق المحلات التجارية التي يعملون فيها بقرار من اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا في السلطنة؛ بهدف مكافحة تفشي الفيروس، أقول تكمن أهمية هذه الجهود الوطنية المبذولة في كونها صمام أمان للمجتمع العماني الذي عُرِفَ بالوقوف صفًّا واحدًا في وجه الأزمات والمِحَن عبر التاريخ، فهذا التآزر بين المواطنين هو طوق النجاة من هذه المصيبة، وهذا التعاضد ليس بجديدٍ على مواطني سلطنة عمان، ونحن نتذكر جميعًا في السنوات الماضية، كيف واجهت السلطنة الأنواء المناخية (جونو، ومكونو) وغيرها من الكوارث الطبيعية، والتي جعلت أبناءَ هذا الوطن ومُقِيميه يخرجون أقوياء، منتصرين، وأكثر صلابةً من ذي قبل، بفضلٍ من الله، وبتعاون الجميع.
وتأتي جائحة كورونا هذه المرة متزامنةً مع تراجع أسعار النفط إلى أدنى مستوًى لها منذ سنوات، ومن هذا المنطلق يتوجب معالجة مشكلة الوافدين المنقطعين عن العمل بأسرع وقتٍ ممكن، عن طريق دراسة عدة خيارات متاحة، يمكن لها أن تُقلِّل من معاناة الموظفين والعمال الذين فقدوا وظائفهم؛ لأن كل الدلائل والمعطيات المتوفرة تؤكد إطالة هذه الأزمة، الأمر الذي يترتب عليه استمرار توقف تلك الأنشطة التجارية لعدة شهور، وربما لسنوات، كما أن الظروف المعيشية الصعبة لعشرات الآلاف من العمال في العديد من المدن، كمسقط، وصلالة، ونزوى، وصحار، وعبري، وصور، أجبرت معظمهم على السُّكْنَى في بيوتٍ قديمة، وغُرَفٍ مكتظة، يصل العدد فيها إلى أكثر من عشرة أفراد، وهذا بالطبع يشكلُ قنبلةً موقوتة في حالة تفشي هذا المرض في تلك الأحياء التي تفتقد إلى التباعد الاجتماعي والعزل الصحي الصحيح.
أضِفْ إلى ذلك أن وجود العمالة الوافدة بمئات الآلاف في المدن والأحياء السكنية دون عملٍ أو دخل يُشكِّلُ مع مرور الأيام، خطرًا على غيرهم من المواطنين؛ إذ يُخشَى من انتشار جريمة سرقة البيوت والمتاجر للحصول على لقمة العيش، وبالرجوع إلى لغة الأرقام نجد أن الوافدين أقل بقليل من المواطنين، فهناك مليون وتسعُمائةٍ وخمسٌ وخمسون ألفِ وافد، يمثلون ما نسبته 42% من إجمالي سكان السلطنة البالغ عددهم أكثر من أربعة ملايين وستِّمائةِ ألف نسمة عام 2019م.
والسؤال المطروح الآن، لماذا لم يكشف الفريق الاقتصادي المُشكَّل من الحكومة لمواجهة أزمة كورونا الحلول والمقترحات المتعلقة بهذا الموضوع الإنساني الهام حتى هذه الساعة؟
وهل تسمح الظروف الحالية للحكومة في ظل الأزمة الاقتصادية، بدعم أصحاب الشركات والمؤسسات التجارية لدفع رواتب العمال وإيجار المحلات التجارية التي تم إغلاقها؟
صحيحٌ أن عددًا من الوزارات والشركات الحكومية أعلنت عن بعض الإجراءات الداعمة والمساندة للمؤسسات والشركات والأفراد، ولكن الكل ينتظرُ التفاصيل، وإن كانت التوقعات غيرُ مُشجِّعة، ولا ترقى إلى درجة تخصيص مبالغ كبيرة لدعم المتضررين بسبب الإغلاق؛ نظرًا للظروف التي تمرُّ بها السلطنة، كما أن البنك المركزي العماني قد وَفَّرَ حزمةً نقدية تقدر 8 بليون ريال عماني؛ لتوفير السيولة للبنوك والمصارف العاملة في السلطنة، كما قام البنك بتخفيض الفائدة على بعض عمليات (إعادة شراء) بواقع 70 نقطة.
ومن الخيارات الأخرى المطروحة في سياق حل هذه المشكلة، إقناع من تعطلت أعمالهم بالموافقة على أخذ إجازة تطوعية لمدة ستة أشهر؛ ليتمكنوا من العودة إلى بلدانهم والاطمئنان على أسرهم، خاصةً أن شهر رمضان المبارك على الأبواب، على أن تتولى الحكومة مُمثَّلةً بوزارة القوى العاملة كطرف فاعل ووسيط بين أصحاب المحلات والشركات أو الكفلاء من العمانيين، تحمُّلَ مسئولية مصاريف السفر، ودفع الرواتب والحقوق المتأخرة، لمن تعطلوا عن ممارسة أعمالهم إن وُجِدت، قبل أن يتفاقم الوضع، وتعجز كلُّ الأطراف عن الوفاء بالتزاماتها القانونية، وذلك لقطع الطريق على المتربصين بهذا البلد، ممن يحاول جاهدًا تدويلَ مثل هذه القضايا، وتصديرها للمنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان، ومنظمة العمل الدولية، وقد يتم الاستعانة بالناقل الوطني (الطيران العماني) الذي تجثم طائراته بالمطار منذ فترة؛ لنقل العمال إلى شبه القارة الهندية مجانًا، أسوةً بدول المنطقة.
وفي الختام، يتوجبُ علينا جميعًا تثمين الجهود الجبارة التي تُبذَل من طاقم الأطباء والممرضين في المستشفيات والمراكز الطبية، وهم يشكلون خطَّ الدفاع الأول للمجتمع، يضحون بحياتهم لإنقاذ الآخرين،كما أن العزل الكلي للمحافظات والولايات التي لم تُسجَّل فيها حالات إصابة حتى الآن، أصبح على رأس قائمة الأولويات؛ للسيطرة على المرض في قادم الأيام.