مع تدفق اللاجئين إلى أوروبا وتزايد المخاوف الأمنية بعد هجمات بروكسل، يجاهد اللاجئون السوريون للتكيف في قرية ألمانية لا يتعاطف الكثير من سكانها مع الأجانب. على مدار أشهر عديدة دأب الصحفي والكاتب الأمريكي جيمس أنجيلوس المقيم في برلين على زيارة هذه القرية ليروي المحنة التي يمر بها اللاجئون السوريون وكذلك السكان المحليون، فاستمع إلى قصتهم كما نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
الصحفي جيمس أجيلوس
النص الكامل للتقرير
كان يوم جمعة من شهر سبتمبر/أيلول من عام 2014، حين عرف "توماس كام"، عمدة بلديةسيجزدورف، التي تعد منطقة غنية بالقرى وتقع عند سفوح جبال الألب البافارية، أن أزمة اللاجئين العالمية على وشك أن تصل إلى بلدته الصغيرة. الطريف أن مكالمة وزارة الداخلية الألمانية أتته أثناء حفل شواء كان قد أقامه احتفالاً بعيد ميلاد زوجته.
مسؤول الوزارة أخبره حينها بأن نحو 400 لاجئ وصلوا مؤخراً للاتحاد الأوروبي بعد أن حطّت أقدامهم على جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وسيتم ترحيلهم إلى ألمانيا. وقد وقع الاختيار على منتجع كوخي شبه خالٍ من السكان، يُسمى "آيزن إيرست" Eisenärzt، ويبلغ تعداد سكانه نحو 1300 نسمة، كأنسب مكان يمكن أن يأويهم بشكلٍ مؤقت.
استطاع كام، وهو رجلٌ نحيف متوسط العمر، كان يمتهن الهندسة الميكانيكية سابقاً، بالإضافة إلى كونه مغنياً بإحدى فرق الأكابيلا، أن يتفاوض لتخفيض عدد اللاجئين الذين سيستضيفهم في بلدته، ليصبح 200 لاجئ بدلاً من 400.
وقال إن القرويين كانوا قلقين من فكرة استقبال عدد كبير من الأجانب القادمين من بلاد كسوريا وأفغانستان؛ لذا فإن استضافة 400 منهم كان أمراً مستحيلاً.
وصلت أول حافلة للاجئين بعدها بيومين، كام تذكر ذلك اليوم وهو يزفر بعمق حتى أن شفتيه رجفتا معاً: "لن أنسى التعابير على وجوههم، إرهاق تام، وخوف محض".
والدا كام كانا قد مرّا بظروف مماثلة فقد عاشا الحرب العالمية الثانية واختبرا ويلاتها، إلا أنهما لم يُخبراه الكثير عن تجربتهما تلك.
وفي يوم الأحد من الأسبوع نفسه، ذهب كام إلى الكنائس المحلية ليخبر الأهالي بالأمر، وقال متذكراً الأمر: "أستطيع أن أتفهم أنه بعد رؤية أولئك اللاجئين، لم يكن أحد سعيداً"، إلا أن أغلب الناس كانوا يدركون حاجةَ اللاجئين للمساعدة، وكما قال كام فقد "تصدرت الإنسانية المشهد".
وكان هذا الخليط من الحذر والشفقة قد ظهر مرةً أخرى في شهر يونيو/حزيران السابق، حين عاد كام إلى الكنيسة ليخبر أهل "آيزن إيرست" بأن المزيد من اللاجئين من سوريا وأفغانستان والعراق، على وشك الوصول إلى جزر بحر إيجة باليونان في مراكب مكتظة، ومن ثم سيتخذون طريقاً وعراً عبر البلقان نحو ما تحمله منطقة شمال أوروبا من أمنٍ ورخاء، وفي أغلب الأحيان، نحو ألمانيا نفسها. وذلك بعد إعادة توطين المائتين الآخرين في مكانٍ آخر.
كانت بافاريا هي الولاية الألمانية الأولى التي تقع في طريق هؤلاء اللاجئين.
ظهر اللاجئون في محطات القطار وعربات الشاحنات المُهربة؛ لذا تم أحياناً إيكال مهمة إسكانهم إلى المسؤولين المحليين من أمثال كام.
وصل الحال باللاجئين إلى حد السكن في القاعات الرياضية بالمدارس، والمحلات الكبيرة، والمخيمات.
سكن الراهبات واستياء الألمان
أخبر كام أهل البلدة بأن فريقاً من راهبات الفرانسيسكان على وشك مغادرة القرية، وهن أخوات منطقة "مالرسدورف" المقيمات بإحدى دور شمال بافاريا، وكن قد بقين ببلدة "آيزن إيرست" لمدة تصل إلى 85 عاماً. وبعد رحيلهن، سيحل محلهن 100 لاجئ سوري.
كانت القرية بتلالها التي تغطيها الغابات وهوائها الألبي بمثابة منطقة عطلة للراهبات وموطناً لتقاعدهن. وكنَّ قد اعتدن في ليالي الاثنين من شهر مايو/أيار- حين يقوم الكاثوليك بإقامة الشعائر احتفالاً بعيد ميلاد السيدة مريم، وهو وقت مخصص للتقرب من مريم العذراء - أن يجتمعن خارج المعبد حديث البناء على أحد التلال العشبية بالقرب من محطة القطار، بقرب نهر "فايس تراون" رائق التدفق، ويغنين الترانيم البافارية بجزلٍ وخفة.
ولكن مع عام 2015، كان لتناقص معدل المواليد الجدد ومظاهر التدين آثارٌ سلبية على الراهبات.
في النهاية أصبح السكن الذي أُسس في عام 1960، والذي طالما كان مزدحماً، فارغاً ووحيداً. وحتى ما تبقى من الأخوات المقيمات هناك، واللاتي تعدى عمر أكثرهن 80 عاماً، وافقن على بيع السكن للبلدية من أجل إيواء اللاجئين.
أثارت هذه التطورات استياء العديد من أهل القرية، فمنهم من أعرب عن قلقه بشأن سلامة نساء وأطفال المنطقة، ومنهم من تذمر بسبب تكلفة الضرائب.
ناقش العُمدة هذه الخطوة، وأوضح أنها قد منعت نتيجةً أكثر ضرراً. كان من الواضح أن سكن الأخوات شبه الفارغ يشكّل ملاذاً مثالياً للاجئين؛ فهو كبير بما يكفي لإيواء 350 لاجئاً. ولكن من ناحية أخرى، إذا لم تشتره البلدية، لقامت حكومة المقاطعة أو أحد مستثمري القطاع الخاص بشرائه، وهؤلاء الباعة الغرباء كانوا ليشغلوه عن آخره. لذا، ستتيح ملكية السكن للقرية بعض القدرة على التحكم في مصيره.
لاقت تصريحات العُمدة استحساناً كبيراً حول البلدة، ولكن رغم ذلك، كان لا زال ثمة شيءٌ يؤرقه.
كام قال إنه استطاع بالكاد أن يمنع انتفاضة شعبية، فلو حدث وانتقل 350 لاجئاً فعلاً للعيش في "آيزن إيرست"، لكان رد فعل العامة هو "أعمال الشغب"، وكان الموقف في رأيه لا يزال متقلباً.
وبدت ردة فعل كام درامية بعض الشيء لأنه من الصعب حدوث أعمال شغب في قرية ريفية بافارية. ولكنه أردف موضحاً أنه يقصد التظاهرت التي تعارض وجود اللاجئين، التي نشبت أسبوعياً بمدينة درسدن، وانتشرت في أنحاء ألمانيا، وأحياناً ما تصل أعدادها إلى عشرات الآلاف.
لم تكن هذه التظاهرات مجرد تظاهرات سلمية، إنما كانت تحمل جانباً أكثر خطورة، وقد كان يتوقع أخرى مماثلة ببلدته في حالة احتدام الموقف أكثر.
كما قال إن أغلب اللاجئين قادمون من سوريا، وقد يحاول الكثير منهم أن يأتوا بعائلاتهم بأكملها أو "أبنائه الثلاثة وزوجتيه"، على حد قوله، وأضاف: "عدد السوريين كان سيزداد بشدة هنا".
رهاب الأجانب
عُمدة البلدة قال إنه استلم رسائل مجهولة كانت تنم بلا شك عن ما يُسمى"رُهاب الأجانب". لم تُمثل هذه الرسائل رأي أغلبية الأهالي الذين أبدى الكثير منهم إحساناً جديراً بالثناء. ولكن كمية اللاجئين الواصلين إلى البلدة كانت كبيرة للغاية حتى أن ذوي النوايا الطيبة أعربوا عن استيائهم.
كان لكام أصدقاء من رجال الشرطة ممن خدموا على الحدود، كما أن طبيبه كان قد تطوع هناك أيضاً. وكانوا قد شاركوه قصصاً مقلقة بخصوص التسجيل الفوضوي للاجئين، الذين وصل الكثير منهم دون أي وثائق. أحد اللاجئين كان في حاجة إلى زرع كُلى، وغيره كانوا يعانون من أمراض يحتاج علاجها أدوية باهظة الثمن. كل هذا في الوقت الذي كان فيه دافع الضرائب الألماني على المحكّ من أجل الحفاظ على سلامته.
وكان قد وصف من أخبروه بهذه القصص بأنهم "ليسوا من ناخبي أحزاب أقصى اليمين، هم يحاولون بالفعل أن يقوموا بواجباتهم تجاه الإنسانية، ولكن حين يرون الواقع على حقيقته، تتملكهم الشكوك".
أعرب العمدة عن خوفه من حدوث رد فعل سياسي عنيف لو لم تقم الدولة بعمل شيء لتقليص معدل تدفق اللاجئين، كما استخدم مقولة ألمانية لتوضيح وجهة نظره: "لا ينبغي لأحد أن يرسم الشيطان على الحائط".
رحلت الأخوات عند نهاية شهر أغسطس/آب، وفي سبتمبر/أيلول وصل أول لاجئ سوري.
ألمانيا.. أمة متعددة الأعراق
على مدار الأعوام الخمسة الماضية، وفي الوقت الذي وصل فيه عدد النازحين عالمياً إثر النزاعات إلى حدٍّ لم نشهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أعرب الكثير من الألمان عن فخرهم واعتزازهم بأن دولتهم - التي كانت قد أطلقت العنان للعنف الذي أدى إلى نزوح جماعي في الحرب العالمية الثانية - قد أصبحت الآن مناراً للأمن وفرصة حياة جديدة للمهددين والمطرودين على مستوى العالم.
أصبح اعتناق الألمان لهذه الهوية الجديدة واضحاً للغاية في الصيف الماضي، حين حاولت هنغاريا أن توقف المهاجرين النازحين إلى ألمانيا عن طريق منع اقترابهم من القطارات.
اللاجئون العالقون في محيط محطة "كيليتي" في العاصمة المجرية بودابست نادوا حينها: "ألمانيا.. ألمانيا"، وفي خلال أيام، استطاع حوالي 1000 منهم الوصول إلى ألمانيا عبر هنغاريا والمجر مشياً على الأقدام، حاملين صوراً للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل.
ميركل خشيت من أن إبعاد المهاجرين سيتسبب في الفوضى، وقامت بدل ذلك بإرسال قطارات ألمانية لتقلهم؛ وهو القرار الذي وصفته لاحقاً بـ"الواجب الإنساني".
حين وصل اللاجئون إلى محطة ميونيخ المركزية، قام المقيمون المحليون بالترحيب بهم بالهتافات والتصفيق، حتى أن بعضاً منهم قدم لهم الشوكولاتة والبالونات.
تحدث الألمان عن "ثقافة الترحيب" أو ما يسمونه Willkommenskultur، وقام السياسيون بوصف الاستقبال الدافئ بأنه إنجاز أخلاقي، وخطوة أوسع نحو إعادة تعريف ألمانيا الحديثة بأنها الدولة الخيرة التي تمكنت من التحرك خارج النسق المخجل لماضيها النازي.
كان ظهور "ثقافة الترحيب" أمراً مدهشاً؛ لأن ألمانيا على وجه الخصوص، مثلها مثل أي دولة أوروبية، لم ترَ نفسها وجهةً للاجئين.
قبل تحول الألفية هذا في ألمانيا، كان من الممكن أن يتم تلخيص السياسات المحلية في شعار غالباً ما ردّده سلف ميركل ومعلمها، المستشار هلموت كول، وهو أن ألمانيا "ليست بلداً للاجئين". كان هذا على الرغم مما سبق من وصول مئات الآلاف من "العمال الضيوف" من جنوب أوروبا وتركيا، الذين أتوا للعمل في مصانع غرب ألمانيا أثناء ما تلى الحرب العالمية الثانية من ازدهار اقتصادي.
كان التغيير سريعاً ومفاجئاً، ففي عام 2012 أصبحت ألمانيا باقتصادها القوي ثاني أكبر الدول في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، مباشرةً بعد الولايات المتحدة.
زاد معدل تدفق اللاجئين إلى ألمانيا في العام الماضي، ووصل إلى مليون لاجئ تقريباً، تمكن 1000 منهم فقط من إملاء طلبات رسمية. تواجه الدولة الآن الاختبار الأعظم لرغبتها في أن تكون حقاً أمة متعددة الأعراق.
قيم أوروبا على المحك
وضع تدفّق المهاجرين القناعات العميقة بشأن القيم الأوروبية على المحك أيضاً. فقد فرضت بعض الدول رقابة على الحدود من أجل إدارة أو صد حركة المهاجرين، ما يقوّض واحدة من الركائز الأساسية للاتحاد الأوروبي، ألا وهي حُرية السفر عبر الحدود الداخلية المفتوحة.
كما زاد تدفق اللاجئين أيضاً من شعبية أحزاب اليمين المتطرف، المناهض للهجرة، وحتى السياسيون الوسطيون صاروا الآن يرون الموقف المناهض للهجرة ضرورياً للبقاء في الساحة السياسية.
ففي يناير/كانون الثاني قامت الدنمارك، التي تعتمد حكومتها من الأقلية على التعاون مع حزب الشعب الدنماركي اليميني المتطرف، بتمرير قانون من شأنه تمكين السلطات من الاستيلاء على مجوهرات ومبالغ نقدية من طالبي اللجوء للتعويض عن تكاليف إقامتهم.
وفي النمسا، تبدد الترحيب الأوليّ بطالبي اللجوء بعد أن أحرزت أحزاب اليمين المتطرف مكاسبَ حاسمة في الانتخابات الإقليمية التي انعقدت في الخريف الماضي. وفي فبراير/شباط نسّقت النمسا جهوداً مع الدول الواقعة جنوب حدودها لإغلاق طريق الهجرة عبر البلقان. فحاصرت تلك الخطوة عشرات الآلاف من طالبي اللجوء في اليونان، وهي بلدة عاجزة بقدر يثير الشفقة عن رعايتهم، فانقطعت السبل بالكثيرين منهم في مُخيمات مؤقتة بائسة.
أما ميركل فقد انتهت إلى أن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بوحدة الاتحاد الأوروبي هي كبح الهجرة من أقرب مصادرها، فدفعت إلى التوصل إلى اتفاق مع تركيا، وتركيا بدورها في ظل حوافز أخرى وفي ضوء إحياء المحادثات المتعثرة بشأن مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وافقت خلال مارس/آذار على استقبال السوريين المعادين وغيرهم من المهاجرين الذين استخدموا البلاد نقطةَ انطلاق لأوروبا.
تلك الصفقة المشكوكُ فيها من الناحية القانونية والأخلاقية، لم تكن كافية لتهدئة مخاوف العديد من الألمان بشأن المهاجرين الذين يعيشون بينهم بالفعل، فالهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس وبروكسل أشعلت المخاوف من أن "داعش" يستغل أزمة اللاجئين للتسلل الى أوروبا. كما سلّطت الضوء أيضاً على المخاوف القديمة حيال التطرف في مجتمعات المهاجرين الذين يشعرون بالاستياء.
في فبراير/شباط أعلن رئيس جهاز المخابرات الداخلية في ألمانيا أن تقديرات خطر وقوع هجوم إرهابي في ألمانيا "عالية". وصارت موجة الاعتداءات الجنسية والسطو، التي وقعت في ليلة رأس السنة الجديدة في كولونيا، والمنسوبة إلى عدد هائل من الشُّبان ذوي الأصول الشمال إفريقية والشرق أوسطية، تُقارن باعتداءات جنسية على النساء في ميدان التحرير خلال الثورة المصرية، ما أثار جدلاً حول الاصطدام مع "ثقافة المسلمين"، بحسب وصف أحد البرلمانيين المُحافظين.
المثل المشتركة.. الدم المشترك
وخلال هذا كُله، لا تزال ألمانيا تصارع مع التحدي المتمثل في تحويل نفسها إلى جمهورية المُثل المشتركة بدلاً من الدم المشترك. فبين الأجواء السياسية السائدة هُناك شعورٌ متزايد بأن القيم الألمانية يجب أن تسود في مواجهة التغير الاجتماعي السريع، وذلك على الرغم من أن تلك القيم بالضبط هي أبعد ما تكون عن الاستقرار.
وغالباً ما يدور النقاش السياسي الألماني حول مفهوم "الثقافة الرائدة" في إشارة للقيم المشتركة التي تتجاوز مجرد الالتزام بالقانون. وغالباً ما يصف قادة التيار المُحافظ تلك القيم باعتبارها قيماً يهودية مسيحية ويُرجّحون أن هؤلاء القادمين من "دوائر ثقافية" أخرى ينبغي عليهم إما البقاء بعيداً أو التكيف معها. فيما يعرض بعض اليساريين الألمان ذلك باعتبار أن هذا البلد النازي سابقاً لا يجب أن يجبر أحداً على الالتزام بما يعتبره قيماً مشتركة.
وفي خضم هذا الجدل، من الممكن أن تصير قيم الثقافة الألمانية مُشوشة للوافدين الجدد، فما أذاعته هيئة الإذاعة البافارية العامة بعنوان "الدليل إلى فهم الناس والبلد" يقول للمهاجرين أن "ينظروا دوماً إلى عيني الشخص الذين يتحدثون إليه".
وبينما تكافح ألمانيا مع تساؤلات الهُوية، تتأجج المخاوف من هذا النوع من اليمين المتطرف، وردود الفعل العنيفة من الشعبويين، الذين كان كانوا يردّون حتى وقت قريب بعقلية الماضي النازي. فقد صاحب تدفقَ المهاجرين ارتفاعٌ حاد في التظاهرات المتطرفة والعنف الموجه ضد الأجانب.
كما قدّم ذلك هدية لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو حزب يميني متطرف تشكّل عام 2013 يعارض العملة الأوروبية الموحدة "اليورو"، وينال الآن دعماً جماهيرياً بسبب تعهده بإبقاء المهاجرين بعيداً عن البلاد. فأنصاره في التجمعات الحزبية كثيراً ما يهتفون قائلين: "نحن الشعب"، وهو الهتاف الذي كان يستخدمه المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية في ألمانيا الشرقية الشيوعية، والآن صار ذلك الهتاف يُستخدم من قِبل الجماعات اليمينية المتطرفة، التي تنظر إلى كلمة "نحن" بالمعنى القبلي أو العرقي.
وفي يناير/كانون الثاني اقترحت زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا"، فروك بيتري، أن تستخدم الشرطة الألمانية "الأسلحة النارية" إذا لزم الأمر لمنع المهاجرين من عبور الحدود. وبعد الهجوم الذي وقع في بروكسل صرّحت قائلة: "إن حُلم أوروبا المُلوّنة قد تحطّم".
بافاريا قلب المعضلة
وفي المقابل، مازالت ميركل تقدم وجهاً مُتفائلاً، فقد كانت شعارها الثابت في التجمعات السياسية: "بإمكاننا التعامل مع الأزمة"، ولكن المنتقدين يتهمونها بأنها فشلت في إدراك مدى فداحة قلق الجمهور. والكثير من هذا الانتقاد يأتي من قِبل الحليف الظاهري هورست سيهوفر، رئيس حكومة ولاية بافاريا. فهو قائد حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الحزب الشقيق الأكثر تحفظاً لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل، الذي حكم بافاريا دون انقطاع تقريباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فقد هدد بمقاضاة الحكومة الاتحادية لعدم تأمين الحدود الوطنية، ويدعو إلى وضع حدود صارمة على عدد طالبي اللجوء المسموح لهم بالعبور. ومن غير المُستغرب أن مثل هذه المُعارضة يجب أن تصدر عن بافاريا، وهي ولاية حدودية بخط حدودي مُستقل يرجع تاريخه إلى الاندماج مع الإمبراطورية الألمانية عام 1871. ومازال البافاريون يشيرون أحياناً إلى الألمان في الشمال، بسخرية، باسم "أهل بروسيا".
فهم فخورون بثرائهم الاقتصادي النسبي (حيث إن نسبة البطالة فيها تقدر بنحو 3.9%، أي أنها من بين أدنى المعدلات في ألمانيا)، كما أنهم على صلة وثيقة بتراثها الثقافي (فهي أرض مهرجان أكتوبر وقانون نقاء البيرة الذي يرجع تاريخه إلى قرون من الماضي)، ويتكلمون بلهجة قد تكون غير مفهومة تقريباً بالنسبة للألمان الآخرين ما لم يتم تخفيفها.
ويعني ذلك أن مدن ولاية بافاريا مثل بلدية سيغسدورف تتربع في قلب المعضلة الرمزية والعملية التي تواجه ألمانيا.
السوريون أكثر دفئاً
ياسر في منزله في "آيزن إيرست"
كان ياسر بين السوريين الأوائل الذين وصلوا إلى مدينة "آيزن إيرست" الألمانية، وهو بحّار ممتلئ الجسم يبلغ من العمر 37 عاماً، أتى من مدينة اللاذقية السورية الساحلية. عندما أنزلته الحافلة قبالة منزله الجديد، قال إن لديه شعوراً بأن لا شيء من هذا الواقع الجديد الغريب بإمكانه أن يكون له، وقال إن ذلك الشعور ينتابه منذ الصيف الماضي، عندما كان يعمل على متن سفينة متجهة إلى مدينة طرطوس بسوريا، وتلقى خبراً من صديق له في موطنه بأن رجالاً يرتدون الزيّ العسكري كانوا يبحثون عنه.
وحتى ذلك الحين، كانت الحياة في اللاذقية لاتزال تحت السيطرة، على الرغم من الحرب. فالمدينة التي يسيطر عليها بشار الأسد لم تشهد ذاك النوع من القتال الذي أدى إلى تمزيق أجزاء أخرى من البلاد. وقال ياسر إنه حينها كان بإمكانه العثور على عمل في البحر للإنفاق على نفسه وزوجته التي تعمل مهندسة معمارية وفي منتصف العشرينات من عمرها، فقد عاشوا حياة كريمة في اللاذقية. وقد زيّن ياسر منزلهم بمختلف الهدايا التذكارية من سفره عبر العالم.
في وقت فراغه، كان يركب دراجته النارية من طراز سوزوكي، كان أزيز الدراجة مصدر سعادة وفخر بالنسبة له، وقال إنه أكمل خدمته العسكرية الإلزامية منذ سنوات، ولكن الرجال ذوي الزيّ العسكري أرادوا إعادة تجنيده للقتال من أجل الأسد. وبحسب ما قال، لا يمكنه القتال لصالح أي طرف في النزاع، قائلاً: "ليس بإمكاني ضرب قطة".
ولذا بدلاً من العودة إلى سوريا، نزل ياسر من سفينته قبالة إسطنبول وانضم إلى الجموع البشرية التي تشق طريقها إلى الاتحاد الأوروبي. وبقيت زوجته في اللاذقية. (ياسر، شأنه شأن العديد من السوريين الآخرين الذين التقت بهم صحيفة "نيويورك تايمز" في ألمانيا، طلب حجب اسمه الأخير لحماية سلامة أقاربه في الوطن).
عندما وصل ياسر إلى المنزل الذي أقام فيه سابقا"الأخوات ماليرسدولفر" في سبتمبر/أيلول، رأى غرفته الفردية في الطابق العلوي حيث استقبله المُشرف على المنزل "بيني بايلهاك ذو الفتحات الكثيرة للأقراط في أذنه والشعر الخفيف والابتسامة الثابتة، والذي يبلغ من العمر 36 عاماً، وفي الأيام التالية شعر ياسر بالملل، وبدأ مصاحبة بايلهاك في الأنحاء، على أمل أن يساعد ذلك في الحصول على عمل في محيط إقامته.
في نهاية المطاف، أوكل بايلهاك بعض المهام إلى ياسر، كإصلاح مقبض باب مكسور، أو كنس ممرات المشي من أوراق الأشجار بالقرب من مقر الإقامة. وبحلول أكتوبر/تشرين الأول، كان بايلهاك قد أعد لياسر ملابس للعمل وجعله مساعده غير الرسمي. وكان الاثنان يتواصلان بمزيج غريب من الإنكليزية والألمانية والعربية.
تحت إرشاد ياسر، توسّعت معرفة بايلهاك بالكلمات العربية بسرعة، وكان يستخدم تلك المعرفة بحرية طوال يوم عمله، للترويح عن العديد من الشبان السوريين. وقال بايلهاك الذي كان يعمل سائق شاحنة قبل أن يأتي السوريون إلى المدينة، إنه لم يفتقد وظيفته القديمة، وبدا مستمتعاً بتفاعله مع السوريين.
بدأ بايلهاك بدعوة ياسر إلى موائد عشاء عائلي. وبعد المدرسة كان ابن بايلهاك الذي يُدعى لوقا ويبلغ من العمر 12 عاماً، كثيراً ما يأتي إلى مكان الإقامة. ويقول لوقا إن السوريين "أكثر دفئاً" من السكان المحليين، وأضاف: "سأكون سعيداً إن عاشوا هنا إلى الأبد".
إيفلين، والدة بايلهاك التي تبلغ من العمر 64 عاماً، تعمل هي الأخرى كمشرفة على النزل الذي تعيش في طابقه الأرضي بصحبة زوجها، تولت إيفلين تلك المهمة منذ زمن، عندما عاشت الأخوات هُناك، وابتهجت عندما علمت بأن سوريين سيأتون إلى النزل.
كانت الراهبات هناك يعتنين بأصغر التفاصيل، وقد نشأت إيفلين في ما وصفته ببلدة "عالمية"، في مكان يُدعى جيريتسريد، جنوب ميونيخ، حيث استوطن الألمان الذين طُرِدوا من أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي وقت لاحق، وصل العمال الأوروبيون الجنوبيون. أي أن نشأتها هناك جعلتها مُنفتحة على أحوال طالبي اللجوء.
لكن تجربتها مع السوريين لم تؤكد تحيزاتها المسبقة، "لقد كانوا محترمين ولطفاء"، واستمتعت بصحبتهم مثل ابنها. ذات ليلة غنى لها عازف الساكسفون الدمشقي أغنية "Hello" لليونيل ريتشي في مكان العبادة السابق بعد أن تمت إزالة معالمه الدينية، بينما تظاهر أحد الشباب السوريين الجالسين بجوار إيفيلين بأنه في مقهى، فصاح: "أيها النادل، كأسان من النبيذ".
بدأ ياسر في التعرف على بعض جوانب الحياة في ألمانيا عبر حديثه مع آل بايلهاك، حيث حدثته إيفيلين عن المال الذي يتم اقتطاعه من الرواتب مقابل الضرائب والتأمين الصحي، وبدا لياسر أن الحياة في ألمانيا أكثر كلفة من سوريا قبل الحرب.
ففي سوريا عملت زوجة ياسر في أحد المكاتب الخاصة، لكنه لم يسمح لها بالعمل في الشركات، فالنساء في سوريا -بحسب رأيه-لا يفترض بهن العمل في مثل هذه الوظائف، لكنه قد يضطر لإعادة النظر في هذا الوضع أثناء وجودهما في ألمانيا، فلن يمكنهما الحصول على بيت وسيارة إن لم يعمل كلاهما. لكنه قال بأنه إن انتهت الحرب في سوريا فسيعود إلى هناك بسرعة البرق.
معاداة اللاجئين
على الرغم من صداقته مع بيني بايلهاك، مازال ياسر يقضي الكثير من الوقت متقوقعاً في غرفته في مزاج قاتم.
عمل ياسر منذ سنوات مراهقته في عرض البحر رباناً مهمته الإشراف على السفن، لكن حياته في ألمانيا لم تتعد حدود العنبر المعزول، ولم تتجاوز التدخين وشرب الشاي.
كان أحد اللاجئين قد أخبر ياسر خلال رحلته من تركيا، بأن ألمانيا ستسمح له بجلب زوجته بعد 6 أشهر، لكن الواقع الذي بدأ ياسر في إدراكه هو أن الأمر قد يستغرق وقتاً أطول من ذلك إن نجح أصلاً في الإتيان بها، "لا أستطيع العيش دون زوجتي". تستغرق عملية "لمِّ الشمل" التي تسمح للاجئين بجلب زوجاتهم في العادة وقتاً طويلاً، كما ناقش الساسة الألمان ضرورة الحد من هذه العملية.
وأعلن وزير الداخلية توماس دي مايسير عن احتمال تغير وضع السوريين في المستقبل، ما سيترتب عليه حماية أقل من التي يوفرها لهم حق اللجوء، ما قد يمنعهم من استقدام أسرهم. أثار القرارُ ضجةً بين الائتلاف الحاكم، وتراجعت الوزارة عن قرارها.
أصيب ياسر بإحباط أكثر في أكتوبر/تشرين الأول، إذ بجانب محطة قطار "آيزن إيرست"، وجد بعض السوريين منشورات كُتبَ عليها: "لا للاجئين"، وأضاف: "كيف ستشعر إن اكتشفت أن البعض لا يحبونك؟"، كما لاحظ بيني بايلهاك أن حرف S كان قد كُتب في هذه المنشورات بحيث يشبه الطريقة التي كان يُكتب بها في شعار قوات النخبة النازية (SS). في مناسبة أخرى، "وجدتُ منشورات مشابهة لتلك التي وجدتها في محطة القطار، وهذه المرة، كان حرف L أيضاً مكتوباً بالطريقة المريبة نفسها".
ومثل ياسر، اعتبر بايلهاك الأمر شخصياً "إن جاء بعض المتطرفين اليمينيين فسأتصدى لهم بنفسي". في العام الماضي، زادت نسبة أعمال العنف ضد اللاجئين 6 أضعاف، 177 جريمة تتضمن 94 حالة لإشعال الحرائق أو محاولات إشعال الحرائق، بحسب الإحصائيات التي قام بها مركز الشرطة الجنائية في المنطقة. وهو ما دفع الرئيس الألماني يواخيم غاوك للحديث في أغسطس/آب الماضي عن صراع الألمانيتين: "ألمانيا المشرقة" المحبة للخير والتعاطف، و"ألمانيا المظلمة" الكارهة للأجانب.
ألمانيا المشرقة
يمكنك أن ترى "ألمانيا المشرقة" في بلدية سيغسدروف، حيث تطوع السكان لتنظيم دورات اللغة الألمانية للسوريين. آنيا بيك الأخصائية النفسية والأم لـ3 أطفال تطوعت لتدريس أحد الصفوف بوجود أطفالها الذين جلسوا على إحدى الطاولات يلعبون بعرائسهم.
آنيا بيك مع أطفالها
دخلت بيك الصف المكون من بعض الرجال السوريين قائلة: "صباح الخير، هؤلاء هم أطفالي"، وبدت سعيدة للغاية بتقدم السوريين: "جميعكم رائعون"، كما ساعدها أطفالها في تقديم الدرس، حيث أمسكت إلينا ذات الـ7 سنوات بالأقلام الملونة قائلة: "هذا برتقالي"، أما جاكوب (5 سنوات) فقد عرض على الطلاب كيف تبدو دمية الدب.
لكن معظم الأشخاص الألمان في البلدة لم يكونوا طرفاً في المعركة الوجودية بين الجوانب المشرقة والمظلمة، بل سادت الرمادية بينهم، حيث يوجد الكثير من التناقض، حتى هؤلاء الذين قدموا المساعدة للاجئين لم تخل نفوسهم من التخوفات.
الكاهن الكاثوليكي المرتاب
الكاهن الكاثوليكي غراف فون ريخبيرغ في بلدية سيغسدروف قال أن زيارة البابا فرانسيس إلى لامبيدوزا، في رحلته الأولى خارج روما، ألهمته لتقديم العون للاجئين الذين وصلوا إلى منطقته في محاولة لتهدئة الأوضاع، ونزع فتيل الضغط الاجتماعي. وحين وصل 16 لاجئاً معظمهم من الأفغان إلى بيت الضيافة القريب من الكنيسة في العام الماضي، زارهم الكاهن عدة مرات. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في اليوم التالي لهجمات باريس خطط لزيارتهم مرة أخرى، لكن شعوراً ما في صدره جعله متردداً، لكنه قرر زيارتهم على الرغم من ذلك وتقديم بعض صور السيدة مريم وبعض الحلوى.
وأضاف "كان الأمر بالنسبة لي مثل العلاج النفسي، لقد أزالت هذه التجربة شعور عدم الثقة الذي اختلج في صدري".
في الحقيقة فإن غراف فون ريخبيرغ رجل مثير للاهتمام، فعلى الرغم من دعوته بعض اللاجئين إلى منزله لتناول العشاء فهو يحمل توقعاً كابوسياً لأثر وجودهم في ألمانيا، إذ تنبأ بأن العديد منهم سيسكن الأحياء ذات الأغلبية المسلمة مثلما في باريس، "لن يكون لديهم عمل يقومون به، ومع بعض الأفلام سيقوم بعضهم بأعمال إرهابية أخرى، لا يمكنني أن أغير شيئاً، يمكنني فقط أن أقبله، لكن هذا سيكون مستقبلنا".
ولدى سؤاله ما إذا كان هذا التوقع مبالغاً بعض الشيء، لكنه قال بأنه يتوقع الأمور من منظور ديني، فالمسيحيون الألمان طغت عليهم المادية، لكن التحديات المرتقبة بما فيها هجمات "داعش"، ستجبرهم على اللجوء لقيم المسيحية مرة أخرى، وأضاف أن "ألمانيا ما بعد الحرب" ستصبح شيئاً من الماضي، لكنه في نفس الوقت رأى هذا القلق باعتباره أمراً مطهراً للروح.
حتى على مستوى شخصي، فقد اعتبر أن هذا القلق فرصة لتنمية الذات، ومضاعفة قيم الانفتاح والإحسان في وجه القلق. "ألمانيا ملتزمة بقسط من المسؤولية تجاه هذه الهجرة الدولية، عليّ أن أتحين استغلال هذه الفرصة بدلاً من أن أشعر بالمرارة".
فقراء ألمانيا
وفي زيارة إحدى ليالي الآحاد إلى حفلة للإدارة المتطوعة للإطفاء في "آيزن إيرست" -حيث تدور الحياة الاجتماعية في المدن البافارية الصغيرة عادة حول الجمعيات أو النوادي المختلفة سواء نادي التزلج، أو نادي الرماية- كانت سيارات الإطفاء تقبع في المرآب، ووضعت بدلاً منها طاولات للطعام، احتوت على أطباق اللحم والفطائر، وبعض زجاجات البيرة المحلية، بالإضافة للموسيقى الشعبية البافارية.
راينر كلافنبرغر المتقاعد البالغ من العمر 62 عاماً، يعمل في المجلس المحلي، وهو اشتراكي ديمقراطي في منطقة من البلاد لا تحتوي على العديد منهم. قال إنه من الأفضل أن يستفيد طالبو اللجوء في ألمانيا من شبكة الضمان الاجتماعي، لكن المشكلة - كما يراها - أن هذه الشبكة لم تستطع تقديم العون الكافي للعديد من الألمان، "كم شخصاً في "تراونشتاين" يبحثون عن الزجاجات بين القمامة لبيعها؟ نحن نمنح الأفضلية للاجئين للاستفادة من هذا الأمر ونترك الفقراء منا، العديد من الناس لا يستطيعون فهم ذلك".
ينتشر هذا الشعور بشدة في أرجاء ألمانيا، ففي فبراير/شباط، طالب زيجمار غابرييل، نائب المستشارة الألمانية زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بزيادة الإنفاق العام، "حزمة جديدة من التضامن مع أهل بلدنا"، في ما بدا كمحاولة للتخلص من السخط السائد في المجتمع. وأضاف غابرييل أنه سمع العديد من الألمان يقولون: "تفعلون كل شيء لأجلهم، ولا شيء لنا"، وهو ما تطلب علاجاً. (رُفِضَت فكرة غابرييل من قِبل المسيحيين الديمقراطيين).
هانز تشيك السمكري المتقاعد ومدير أحد النوادي المحلية للحفاظ على تقاليد الرقص المحلية، حيث يرتدي بعض أعضاء النادي الأزياء المحلية، بينما يؤدي آخرون بعض الرقصات المحلية، قال "يُظهر الناس قلقهم مما ستؤول إليه الأمور إذا ما هيمنت ثقافات أخرى عليهم". كان قد رأى أحد السوريين يتجول في المدينة حاملاً طفلة على كتفه - ابنته كما يبدو- فتعجب قائلاً: "أين كانت الزوجة؟"، وافترض أن هذا دليل على عدم المساواة، "هنا، الرجال والنساء متساوون".
وفي هذه اللحظة تدخل كريستيان نجل تشيك في الحوار، وبيّن أنه يعتقد أن اللاجئين سيواجهون أوقاتاً عصيبة في محاولاتهم الاندماج في القوى العاملة. وأشاد بالتدريب المهني المستمر الذي يخضع له الجميع – الذي اجتازه هو نفسه - ويشكك في إمكانية مجاراة طالبي اللجوء لما يحتاجه سوق العمل. كما حذرت وزيرة العمل الألمانية أندريا ناليس من أن أقل من 10% فقط من طالبي اللجوء الذين وصلوا لديهم المؤهلات اللازمة لدخول سوق العمل فوراً. وحذرت من ارتفاع معدلات البطالة الناتجة عن ذلك. ورغم هذا يقول العديد من الاقتصاديون الألمان إنه على المدى البعيد ستفيد موجاتُ الهجرة الاقتصادَ. لكنهم يتفقون جميعاً على أن هذا سيحتاج إلى استثمار ضخم في التعليم والتدريب المهني.
ويعتقد كريستيان ووالده أن هذا الأمر لن يمر بشكل جيد. ويضيف كريستيان أن كثيراً من السوريين لن يرغبوا في البقاء بقرية صغيرة ك"آيزن إيرست" على أية حال، بل سيفضلون الذهاب إلى ميونيخ وبرلين. "هذه هي الميزة الوحيدة التي لدينا". وبعد تفكير أوضح أن ابنه قد استمتع باللعب مع أحد أبناء اللاجئين الذي قضى بعض الوقت هنا في العام الماضي، وكانا قد تقابلا في ملعب كرة قدم. وأضاف: "يمكن للأطفال أن يندمجوا سوياً بسهولة أكثر بكثير من البالغين، فهم لازالوا أحراراً".
إيفلين بايلهاك وبيني بايلهاك مع مجموعة من اللاجئين السوريين
نقمة بين اللاجئين الأفغان
طالب اللجوء الأفغاني - ذا الـ20 عاماً - خليل قرالوك، كان يتناول الشراب مع رفاقه في السكن من الأفغان. جاء قرالوك إلى ألمانيا منذ عامين وكان يقطن النُّزُل المجاور لكنيسة مدينة سيغدورف، وهو المكان الذي يزوره غراف فون ريتشبيرغ بشكل دوري. كان ذاك يوم الأحد حيث يجتمع العديد من الأفغان في غرفة واحدة، وينطلق غناء أفغاني من هاتف أحدهم. اصطفت أطباق الكباب الباردة غير الملموسة - التي حضرها المطبخ بالأسفل - بجوار النافذة. كان أغلب الأفغان يشربون البيرة، بينما كان قرالوك يشرب الفودكا ويدخن سجائر ملفوفة يدوياً بلا انقطاع. كان يميل لنفخ الدخان من فمه ثم يستنشقه مرة أخرى من أنفه، بحيث يبدو الأمر وكأن هناك سحابة بيضاء لا تنقطع على شفته العليا.
لم يكن قرالوك في مزاج جيد كما لم يكن أي أحد آخر في الغرفة أيضاً. فبينما حصل السوريون على العديد من التأكيدات على حصولهم على صفة لاجئ سريعاً، كان الأفغان – وهم ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين تدخل البلاد – فازوا بأحد أشكال الحماية في أكثر هذا الوقت.
وكانت هناك إشارات إلى أن ألمانيا – التي رفضت ذلك للعديد من السنوات - في طريقها لإعادة بعض الأفغان لبلادهم مرة أخرى. فقد أوضح وزير الداخلية الألماني دي مازيري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أنه من "غير المقبول" مجيء كل هذا العدد من الأفغان، وليست كل أفغانستان غير آمنة. بعدها بأشهر قليلة قام بزيارة كابول وحث الأفغان على عدم محاولة المجيء لألمانيا قائلاً: "ستخسرون أموالكم ولن تحصلوا على أي مستقبل". وأشار قرالوك بأسف إلى أنه في يوم زيارة مازيري قام انتحاري تابع لطالبان بمهاجمة مجمع للشرطة بكابول وقتل أكثر من 20 شخصاً.
العديد من الأفغان الذين يقيمون في زيغسدورف يقولون بأن طالبان ستقتلهم على الفور إذا ما عادوا. يقول قرالوك أنه لا ينبغي تصديق كل ما يقال، وأضاف: "الكثير من الناس الذين يأتون إلى هنا يكذبون". ورغم ذلك قال قرالوك إنه ليس لديه سبب يدفعه للكذب. وأكد أنه خدم كمترجم للقوات البريطانية والدنماركية العاملة في إقليم هلمند عام 2011. وأوضح أن طالبان علمت بشأن تعاونه مع القوات الأجنبية وهددته هو وعائلته. وعندما حدث ذلك لجأت العائلة بأكملها إلى باكستان. بينما أكمل قرالوك طريقه من هناك إلى ألمانيا. وهو على يقين من مقتله إذا ما أعادته الحكومة الألمانية مرة أخرى "أنا على رأس القائمة".
ذهب قرالوك إلى غرفته – التي يشاركها مع طالب لجوء إريتيري لا يطيقه - حيث قال: "لقد أصابتني حساسية من اللغة الإريتيرية"، وعاد ومعه بعض الأدلة على عمله كمترجم للقوات الأجنبية من ضمنها خطابات تقدير من اثنين من القادة الدنماركين.
من خلال قراءة حسابه تجد أن "خليل شخص لطيف جداً ولا يشتكي من أي شيء أبداً"، لكنه بالرغم من ذلك لم يعد سعيداً كما كان من قبل. فقد تركه عامان من الانتظار على قائمة اللجوء ممتلئاً بالمرارة. وأصبح يجد صعوبة في النوم ويشعر بالتوتر باستمرار. كما أنه أُنهك من النظرات القذرة له في الطرقات، "عندما ينظرون لي، يكرهونني".
لكن تعاسة قرالوك لم تجعله عاطلاً. وقال إنه حضر مدرسة مهنية وتعلم الألمانية بشكل جيد. كما يعمل لما يقرب من 50 ساعة في الشهر في سوبر ماركت في تراونشتاين، وكان من المقرر أن يبدأ التدرب هناك في وقت لاحق من هذا العام.
قرالوك يعمل أيضا في ورشة إصلاح السيارات، حيث كان يشارك كجزء من التدريب المهني الذي يحضره. بينما كان يقوم بتنظيف الشحوم على خرطوم بمناشف ورقية غارقة في زيت التربنتين، تحدث عن تلك المرة في إقليم هلمند عندما كان يجلس داخل دبابة مع جنود دنماركيين وانفجرت أمامهم قنبلة مزروعة على الطريق. وأضاف أن "أحد الجنود كان ينزف من عينيه وأنفه وأذنيه".
قرالوك يقول إنه كان يريد أن يصبح سياسياً أو دبلوماسياً، لكنه الآن لا يريد سوى حياة بسيطة. إذا حدث كل شيء وفقاً للخطة فإنه سيكمل فترة تدريبه في السوبر ماركت في 3 سنوات. وبعد لحظات قليلة، خرج نائب مدير المتجر فيليب هوبر (22 عاماً) وأشعل سيجارة. وأشاد بقرالوك كونه يتمتع بدوافع ذاتية. وقال إنه لم يكن من السهل بالنسبة للسوبر ماركت العثور على عمالة جيدة مثله.
بدأ قروالوك مناوبته في قسم المشروبات وتأكد من محاذاة عبوات العصير لبعضها بعضاً. وفي وقت لاحق، زار غرفة الاستراحة وأشعل سيجارة. بعد بضعة أنفاس، تردد صوت عبر نظام الصوت. "خليل إلى قسم الخضراوات". أطفأ قروالوك سيجارته على الفور ليذهب ويُخزن بعض الثمار.
قالت سيغلند سيدل، وهي امرأة باسمة جلست للتو في غرفة الاستراحة: " لطيف للغاية، رجل لطيف جداً". عملت سيدل كجزارة في قسم اللحوم لمدة 26 عاماً. عندما أسمع الناس يشتكون من اللاجئين، أقول لهم: "أنتم لا تعرفون كم هم جيدون". ثم تذكرت بوضوح وجود بعض الزملاء اللاجئين منذ فترة طويلة – لم تتمكن من تذكر مواطنهم الأصلية تماماً - ولكنهم اضطروا لمغادرة البلاد. "ربما كانوا من البوسنة؟"، فمنذ بداية التسعينات حتى منتصفها - خلال الحرب البوسنية - منحت ألمانيا الحماية المؤقتة لـ345 ألف لاجئ من البوسنة والهرسك. وفي عام 1996 بدأت الحكومة الألمانية محاولة إعادتهم مرة أخرى. تظن سيدل أنهم كانوا من البوسنة فعلاً. وقالت إنه كان عاراً حقاً حين توجّب على هؤلاء الزملاء السابقين مغادرة البلاد. "آمل أن يتمكن اللاجئون هذه المرة من البقاء".
بعد عدة أشهر كان قرالوك أكثر قلقاً، فقد تم فصله من المدرسة المهنية بسبب غيابه. وقال إنه كان يحاول العودة إلى حالة مزاجية أفضل، ولكنه كان يصارع لأجل ذلك. وأضاف أنه يرى سوريين يحصلون على صفة اللاجئين على الرغم من أنهم وصلوا إلى ألمانيا بعده بفترة طويلة. وتساءل عن أنه لا يستطيع أن يفهم لماذا لم يكن الأوروبيون يريدون الأفغان. وقال: "ما المشكلة معنا؟ ماذا فعلنا في أوروبا؟ لم يكن هناك أي أفغان في الهجوم على باريس".
استياء من اللاجئين
لكن "شهر العسل" لم يدم طويلا، فقد بدأ العديد من أهالي بلدة "آيزن إيرست" بعد عدة أشهر من وصول اللاجئين يبدون الكثير من الاستياء تجاههم. لم يرد الأفراد الذين عبروا عن هذه المشاعر في كثير من الأحيان أن تُذكر أسماؤهم. وتحدث رجل كان يضع الأوراق في سلة إعادة التدوير، عن استغلال دافعي الضرائب الألمان في الدفع للاجئين، وعن مسلمين يُطالبون ببناء المساجد. ولدى سؤاله عن اسمه ، هز رأسه وقال: "أي شخص يذكر تلك الأمور في العلن يتم وسمه بالنازية على الفور. وقال الكاهن غراف فون ريتشبيرغ: "التاريخ البني في ألمانيا - في إشارة إلى الحقبة النازية - جعلت الكثير من الناس يترددون في التعبير عن مشاعرهم الحقيقية".
لم يكن من المُستغرب أن يكون أحد أكثر الأفراد غضباً امرأةً أميركية من ولاية أوهايو تُدعى أليسون كولماير. كولماير تعمل في متجر بالقرية، وهو متجر صغير هدفه جمع الأموال للأعمال الخيرية في الكنيسة المحلية. كان أكثر الموجودين من كبار السن، وكانوا يتناولون الكعك والقهوة التي يقدمها لهم نسوة يرتدين المريولات. ولدى الحديث عن 100 من السوريين المتواجدين في القرية، كان رد فعل أغلب الضيوف هو الصمت المطبق. وقالت كولماير، التي تزوجت رجلاً محلياً وعاشت في آيزن إيرست على مدى 3 عقود: "نحن ضد هذا الهجوم الضخم. أنا غاضبة حقاً!"
بعدما استشاطت غضباً لوهلة، توقفت وضحكت، وكأن غضبها نفسه هو ما كان دافعها للضحك. بدا وكأنها تظهر مشاعرها للجميع، في الوقت الذي بدا فيه مَنْ في الغرفة قلقين. "لم يكن عليكِ مناقشة الأمر"، هكذا همست إحدى السيدات لكولماير. كولماير قالت بأنها لم تكن متحيزة ضد أي شخص، إلا أنها كانت غاضبة من الطريقة المخالفة التي ركب بها السوريون دراجاتهم في الشارع، حيث قالت إنها كادت تتعرض للدهس مرتين.
لقد كانت غاضبة من كم الأموال الذي تعطيه الحكومة لطالبي اللجوء، حيث ترى أنهم يجب أن يحصلوا على نقود أقل، وليس ما يأخذونه حالياً. كانت غاضبة من أن الشرطة لم تسمح لها بالتحقيق في المخالفات التي يرتكبها السوريون، حيث تقول: "صديق أختي ضابط شرطة، ولا يسمح له بالإبلاغ عما يحدث".
هذا المعتقد الأخير تحديداً، أي اعتقادها بأنه تتم تغطية المخالفات والجرائم التي يرتكبها طالبو اللجوء، أصبح راسخاً لدى العامة. الشبكات الاجتماعية والمواقع اليمينية المتشددة على الإنترنت تقوم بنشر الكثير من الوقائع المشكوك فيها من حالات اغتصاب وجرائم أخرى، إذ يريدون تأجيج حالة الخوف لدى الناس.
اليمين المتطرف يستغل حادث التحرش
في أحد التجمعات الألمانية في فرايلاسينغ، وهي مدينة حدودية جنوب ألمانيا تحولت إلى نقطة عبور رئيسية للاجئين، أشار أحد المتحدثين إلى أن هؤلاء الرجال القادمين عبر الحدود لديهم رغبات جنسية مفرطة، حيث يقول: "لا أريد أن أعرف ما الذي سيحدث لنسائنا وأطفالنا عندما يغادر هؤلاء الرجال المخيمات". مجموعات اليمين المتطرف أيضاً بدأت في استعادة بعض من افتراءات الحقبة النازية، إذ زعمت أن السياسيين والصحفيين يعملون جنباً إلى جنب لتغطية الحقائق البشعة. ثم ظهرت مؤخراً حالة متزايدة من انعدام الثقة بمؤسسات الدولة وبالإعلام نتيجة للمخاوف من تدفق المهاجرين واعتقادهم بأن تلك المؤسسات تخفي عنهم ما يفعله هؤلاء، وهو ما قاد الكثيرين لتصديق بعض المعلومات المضللة.
في نوفمبر/تشرين الثاني، حاول دي ميزير مواجهة ترويج الشائعات من خلال إعلان دراسة أعدتها الشرطة توصلت إلى أن طالبي اللجوء واللاجئين إجمالاً هم أقل استعداداً لارتكاب الجرائم من السكان الأصليين. جاءت الدراسة بعد سلسلة من الاعتداءات والسرقات في كولونيا ليلة رأس السنة.
وعلى الرغم من ذلك، طلبت الجماعات اليمينية المتشددة إثبات هذه النظرية، إذ إن التقرير المبدئي للشرطة وصف تلك الليلة بـ"الهادئة". وبحلول منتصف مارس/آذار الماضي، كانت هناك 1139 شكوى جنائية تم تقديمها، بينها 485 شكوى من اعتداءات جنسية تتراوح بين الشتائم الجنسية، ومحاولات الاغتصاب والتعدي، وحالات الاغتصاب، لذلك اعتُبِر رد الشرطة تغطية على تلك الجرائم، وانتشرت حالة واسعة من الغضب.
تدرك ميركل تماماً حجم الغضب الشعبي، ودعت لمحاكمة قوية للمخالفين وأكدت تقديم المزيد من القوانين والتشريعات التي تسهل طرد المجرمين الأجانب خارج البلاد. وعلى الرغم من ذلك جاءت تلك الأمور في صالح المجموعات اليمينية التي تسعى إلى الاستفادة من حالة الخوف المتزايد لدى الألمان.
الألمان “الأشرار”
وبدأت المزاعم حول قيام الحكومة بتغطية ما يحدث تتزايد باستمرار. في مساء أحد أيام السبت، في مطعم بأحد الشوارع الرئيسية في "آيزن إيرست"، ردد الحاضرون الذين يتحدثون بلهجة بافارية كثيراً كلمة "لاجئين" وهم يتبادلون أطراف الحديث أثناء شرب البيرة. لم يَبد المتحدثون سعداء، على الرغم من أن الحديث في ألمانيا مع تناول الجعة يعتبر ثرثرة لا تؤخذ على محمل الجد. رئيس وزراء بافاريا، هوريست زيهوفر، الذي ينتقد سياسات ميركل تجاه اللاجئين بحدة، دائماً ما يُتهم بتناول تلك الجعة قبل الحديث عن آرائه، في إشاره لكونه يثرثر كثيراً، إلا أن الجالسين في المطعم بدوا أنهم يقولون ما يفكرون فيه بالفعل، وليس مجرد كلام غير جدي.
كان المطعم في ذلك الوقت يشعل إضاءة خافتة، ولم يكن هناك سوى طاولة واحدة مشغولة، حيث جلس عليها زوجان وزوجاتهما، بينهما زوجان يديران المطعم. حدقوا في وجهي في تعبير عن الحيرة الواضحة على وجوههم بسبب لحيتي السوداء، حتى أنني تساءلت دائماً إذا ما كان السكان المحليون يظنونني سورياً.
لم تكن النظرات التي أحظى بها دافئة في أغلب الأحيان. لم يكن المشهد مريحاً، ولكن لم يكن هناك فرصة للمغادرة. قلت لسيدة ترتدي زياً وردياً وتقوم بخدمة الزبائن: "هل يمكنني أن أحصل على شراب جعة؟".
في هذا الوقت، سأل أحد الزبائن: "من أين أنت؟"، هكذا سأل ذلك الرجل الطويل الأصلع والذي تعلو رأسه صورٌ للملك لودفيغ الثاني على الحائط. عندما أخبرته بأنني من