البحث العلمي بين الواقع والطموح

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٥/مارس/٢٠٢٠ ١١:٤٣ ص
البحث العلمي بين الواقع والطموح

د.محمد بن عوض المشيخي

ارتقت الكثير من الشعوب على هذا الكوكب، وحجزت لنفسها مكانا متقدما بين الأمم؛ باعتمادها على مراكز البحوث المتخصصة،و التي تحتضنها الجامعات و تمولها الدولة و الشركات، و المؤسسات الوقفية المهتمة بالبحث في مختلف المجالات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، و كذلك اختيار الخبراء الذين يمتلكون مهارات وخبرات بحثية؛ تمكنهم من استقراء المستقبل.

وفي هذا العصر تعتمد معظم الحكومات وصناع القرار فيها؛ على المعلومات الصحيحة والبيانات الدقيقة، التي توفرها البحوث و الدراسات العلمية. فالقرارات التي تبنى على التخمينات والاعتقادات الشخصية لا يمكن أن يكتب لها النجاح.

عالميا بلغت المراكز البحثية ذات السمعة الدولية، والتي يمكن الاعتماد على ما تنتجه من دراسات وبحوث رصينة حوالي 7000 مركز بحثي في 182 دولة حول العالم.
وربع هذه المراكز في الولايات المتحدة وحدها.وتصنف ثلاثة مراكز باعتبارها الأكثر تأثيرا في صناعة القرار العالمي ؛ و يأتي مركز (بروكنجز) الأمريكي الأكثر تأثيرًا في السياسات الاقتصادية و الأمنية و الإعلامية في أميركا و خارجها. بينما يأتي معهد (تشاتام هاوس) البريطاني والمعروف رسميًا باسم المعهد الملكي للشؤون الدولية؛ ضمن هذه المراكز ذات السمعة الرفيعة، والذى يدرس ويضع حلولا واستراتيجيات لمعظم المعضلات العالمية.

أما المركز الثالث من حيث التأثير فهو (بروجل) الذي يتخذ من بلجيكا مقرا له ويهتم بتحليل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا و العالم. وتخصص معظم الدول المتقدمة 3% من دخلها القومي كأقل تقدير لموازنة البحوث العلمية. بل إن بعض الدول تخصص ميزانيات أكبر من ذلك؛ قد تصل إلى 4.8% مثل إسرائيل، وكذلك اليابان التي وصلت مؤخرا إلى 3.4%.

وفي الجانب الآخر تعاني الدول العربية من ضعف حجم الموازنة البحثية التي لا تصل بأي حال من الأحوال إلى 1% ؛ بل هي محصورة بين 0.2% كالسعودية، و 0.8 كالمغرب مثلا ،و ذلك من إجمالي الناتج المحلي. والاستثناء الوحيد هنا هو دولة قطر ؛ التي خصصت للبحث حوالي 3% من دخلها القومي.

ورغم أهمية البحث العلمي في إنجاح الخطط الاستراتيجية للدولة، فهناك من الذين لا ينظرون إلى أهمية ذلك عند وضع الخطط والاستراتيجيات المستقبلية؛ لعدم الثقة بمثل تلك البحوث والدراسات، وتجاهلها في بعض الأحيان؛ مما ترتب على ذلك إخفاقنا في تنويع مصادر الدخل. وكذلك إهدار ما يعرف باقتصاد المعرفة، الذي أصبح اليوم الركيزة الأساسية للازدهار في كثير من البلدان. وحول مؤشر الابتكار العالمي للعام 2015 ؛ فقد احتلت السلطنة المرتبة 69 عالميا، و بالطبع هذا المركز لا يحقق طموح المجتمع العماني الذي يتطلع دائما إلى الأفضل في إحراز مراكز متقدمة في هذا المجال.

لا شك أن تأسيس مجلس البحث العلمي عام 2005 كان خطوة في الطريق الصحيح؛ نحو وضع استراتيجية وطنية وخارطة طريق للبحوث والدراسات العمانية، بالتنسيق مع مختلف الجهات الحكومية كالوزارات ذات العلاقة، وجامعة السلطان قابوس والجامعات الخاصة، وأعضاء من القطاع الخاص، التي تنتسب جميعها إلى عضوية المجلس عن طريق تمثيل الوزراء ورؤساء الجامعات وبعض الشخصيات التي تمثل القطاع الخاص. وبالفعل زادت البحوث الفردية و الجماعية التي تتكون من فريق عمل من الباحثين و يمولها المجلس عبر السنوات الفائتة. إذ بلغت ذروتها العام الفائت(2019)؛ وذلك بتمويل 266 بحثا. بينما مولت جامعة السلطان قابوس 100 مشروع بحثي في نفس العام.

ورغم هذه الإنجازات البحثية الهامة - السابقة الذكر - يجب الاعتراف بأن هناك العديد من التحديات الحقيقية التي يمكن التغلب عليها :
أولا: تفعيل هذه البحوث التي أنجزت وتوظيفها؛ بإلزام الوزارات والهيئات الحكومية والشركات التي لها علاقة بهذه البحوث؛ بالاستفادة من نتائجها وتنفيذها على أرض الواقع.
ثانيا: تشير الأرقام المخصصة للبحث العلمي في السلطنة إلى انخفاض الإنفاق على الدراسات والابتكارات العلمية، ففي عام 2015 كانت مخصصات البحوث العلمية في السلطنة (0.25%) من إجمالي الناتج المحلي، وهذا الرقم المتدني يجعل السلطنة في ذيل دول العالم من حيث الإنفاق على البحوث العلمية، بل وحتى الفقيرة منها.
ثالثا: إقناع الجامعات الخاصة في السلطنة بأهمية البحث العلمي، وضرورة تخصيص موازنات سنوية لهذا الغرض؛ وذلك انطلاقا من الوظيفة الأساسية للجامعة التي لا تقتصر فقط على التعليم، ومنح شهادات لمنتسبيها. بل هناك وظائف أخرى غير التعليم؛ كإجراء البحوث العلمية، وخدمة المجتمع. فالجامعات الأمريكية مثلا تخصص 40% من إجمالي إنفاقها للبحث العلمي، بينما نجد بعض جامعاتنا الخاصة تخصص مبالغ قليلة جدا للبحوث.

أما في مجال مراكز بحوث الرأي العام، التي يفترض لها أن تعمل كبوصلة لمساعدة الحكومة في التعرف على آراء المواطنين وطموحاتهم في المشاركة في صنع القرارات، ووضع السياسات المستقبلية للوطن؛ فلا وجود لها في السلطنة رغم أهميتها. وذلك لأسباب عديدة؛ منها عدم الثقة بأهمية إنشاء مثل هذه المراكز . بل حتى بنتائج الدراسات العلمية التي يقوم بها الخبراء.
وفي هذا المقام نتذكر جميعا؛ بعض القرارات التي اتخذتها الحكومة في السنوات الفائتة، ثم تراجعت عنها؛ بسبب ردود أفعال الرأي العام القوية تجاه تلك القرارات غير المدروسة بشكل صحيح. فعلى سبيل المثال؛ قرر مجلس الوزراء قبل أكثر من عقدين من الزمن بأن يكون الدوام الرسمي للموظفين في الوزارات والهيئات الحكومية من الساعة 9 صباحا إلى 4 مساء؛ بدلا من الدوام المبكر الحالي، وذلك تقليدا لبعض الدول التي يكون طقسها عادة باردا.

في الختام؛ الآمال معقودة على الرؤية المستقبلية للسلطنة 2020 -2040 لإحداث نقلة نوعية في تطوير بيئة البحوث و الابتكارات العلمية؛ لكون هذه الرؤية قد اقترحت رفع الاعتمادات المالية المخصصة للبحث العلمي لتصل نسبتها إلى 2% من إجمالي الدخل القومي بحلول العام 2040 بإذن الله.

- أكاديمي وباحث متخصص في الرأي العام والاتصال الجماهيري.