عائشة وابن النضر.. الزواج الذي تحول لكارثة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/مارس/٢٠٢٠ ١٢:٢٤ م
عائشة وابن النضر.. الزواج الذي تحول لكارثة

نصر البوسعيدي

«كان الفرح يحيط بعائشة من كل مكان، ففارس أحلامها قد أتى لخطبتها والزواج منها ليكملا مسيرة حبهما الطاهر نحو المستقبل.. يداها مخضبتان بالحناء وجميع أهلها وصديقاتها يهنئونها بليلة الفرح ولكن خردلة الظالم حاكم سمائل كان له موقف آخر حول فيها تلك السعادة إلى فاجعة !!»
لقد كانت عُمان في تلك الفترة تعاني من شر الانقسام والصراع على السلطة، بل كانت تعيش في عصر الملوك والطوائف كل مدينة لها حاكمها.

لم يكن النظام وعدالة الدولة المركزية هي من تحكم البلاد، فالجور والظلم كان السمة السائدة لمن يملك أمور العباد كحال مدينة سمائل التي خرج منها الصحابي الجليل مازن بن غضوبة أول من أسلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل عُمان.

كانت سمائل مدينة مزدهرة ونبغ منها العديد من العلماء كابن النضر أحمد بن سليمان بن عبدالله بن أحمد بن الخضر بن سليمان السموئلي الذي كان شابا من أعلم أهل زمانه وشاعرا فصيحا استطاع في حياته حفظ أكثر من 40 ألف بيت لأشعار فطاحل العرب وهو في سن صغيرة، وتفرغ للعلم والعبادة بعدما تبحر، وترك إرثا فكريا مهما جدا في الولاية والبراءة والصلاة والأحكام الفقهية وغيرها من مؤلفات استطاع من خلالها أن يثري الأمة العمانية والإسلامية بشكل عام والتي لم يبق منها الكثير بعد الكارثة التي حلت عليه!

وكعادة وضع أي مدينة عمانية في ذلك الحال المرتبك سياسيا، وقعت سمائل تحت حكم أحد الجبابرة مثلما تشير إليه جميع المصادر التاريخية واسمه خردلة بن سماعة والذي كان يمارس جوره وظلمه دون أي رادع، فكان مجرما بحق يقتل كل من يعارضه ولو على أتفه الأمور، وهكذا كان حال الناس الأبرياء تحت سطوة حكمه، فكان يفرض عليهم الكثير من الضرائب المهلكة، وكان يسلب أموال خلق الله دون أي حق ووصل به الحال إلى فرض قانون يمارس من خلاله إجرامه بحق المجتمع، ففرض على كل متزوجة تسليمه نصف مهرها، ومن يرفض مصيره التنكيل والقتل!

هل لكم أن تتخيلوا تلك المعاناة الشديدة التي كان تحيط بالأهالي في ظل حكم الجبابرة كخردلة من أصبح في كل يوم يزداد وحشية ضد الضعفاء؟!

أغلب من كان يقاوم هذا الظلم مصيره القتل والنهب وتشتيت شمل عائلته، ورغم ذلك لم تخل البلاد من الشجعان الذين قاوموا هذا الظلم وذهبت أرواحهم فداء للحق.

فحينما تقدم ذلك الرجل الصالح للزواج من ابنة أخ ابن النضر واسمها عائشة بنت محمد كان مهرها بعملة ذلك الزمان 50 محمدية فضة، وما أن أرادوا إتمام هذا اليوم السعيد إلا وأرسل إليهم خردلة جنوده للمطالبة بنصف المهر!

لم يكن للعائلة أي قوة وحيلة للامتناع من دفع نصف مهر هذه المسكينة، إلا أن عمها ابن النضر وقف لهم وقفة رجل شجاع مقدام وهو بعمر الـ35 عاما رافضا هذا الفعل المشين الذي لا يعبر عن رجولة وكرامة من يتولى أمرهم، فطرد جنود خردلة وطلب من ابنة أخيه عدم تسليم درهم واحد لهم، وما أن عاد الجنود لزعيمهم حتى أخبروه بالأمر فجن جنونه وطالبهم بإلقاء القبض على ابن النضر والقدوم به مكبلا إلى قلعته، وهناك كان الحوار الذي دار بين الطرفين ولم يخش هذا العالم الجليل من كل تهديدات خصمه الذي قال لابن النضر:

« كنا نريد منك نصف الخمسين فقط والآن لا نريد إلا دمك «!
فرد عليه ابن النضر ورأسه مرفوع :

« أمر حياتي لمن خلقك لا لك « .

ومنها مباشرة أمر خردلة بإلقاء ابن النضر من أعلى قمة قلعته ليسقط شهيدا مفارقا الحياة أمام مرأى ومسمع الجميع بعدما فجعوا من هول الجريمة لسبب هزيل سلب من خلالها حياة أعظم وأشهر علماء عمان وهو لا زال في مقتبل العمر، ليتحول ذلك الفرح إلى حزن شديد لاستشهاد أحد أبرز أفراد العائلة في نهايات القرن الخامس الهجري.

لم يكتف هذا الجائر بقتل ابن النضر بل أمر أصحابه بالهجوم على منزله وحرق كل مؤلفاته وكتبه ليخسر أهل عُمان كذلك الكثير من تراثه الفكري الذي أراد به منفعة الإنسان في مسيرة الحضارة ، حيث لم يبق منها إلا القليل وأشهرها كتاب الدعائم الذي أصبح منذ ذلك الزمان من أهم الكتب التي تم تداولها في بلاد المغرب كذلك، بالإضافة إلى كتاب سلك الجمان في سيرة أهل عُمان، وكتاب الوصيد في ذم التقليد، وكتاب مرآة البصر في جمع المختلف من الأثر.

وفي مجمل الحال كانت هذه الفعلة الشنيعة من أسوأ الصفحات السوداء بتاريخ عصر الطوائف لدينا وبالأخص جرائم حكام الاستبداد والظلم ضد الأبرياء، ولكن حق الأبرياء لا يذهب عند الله هدرا، فخردلة ذاته بعد زمن كانت نهايته مؤلمة فقد اقتتل هو وأخوه جبر في إزكي بعدما اعتدى على أملاك شقيقه ليتصارعا في معركة قتل أحدهما الآخر طمعا في السلطة وكأن الله كتب هلاكهما ليرتاح من وقع تحت سلطتهما .

وأختتم هنا ببعض ما قاله ابن النضر رحمه الله في كتابه المعروف بالدعائم :
وأعجب من ذا جاهل بمصيره وينعم عينا بالكرى كالمغمر
وما المرء في دنياه إلا كناعس أحاطت به الأمواج في لجج البحر
فما حال يقظان يذود بنفسه فكيف يغر جاهل القلب مغتر

المرجع :

- تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان ج1-ج2، الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، الناشر مكتبة نور الدين السالمي – السيب سلطنة عُمان.
- الدعائم ، الشيخ أبي بكر أحمد بن النضر العماني، الطبعة الثانية، 1988م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.