د.صالح بن سعيد مسن
يعتبر الجهاز الإداري للدولة العمود الفقري للتنمية المستدامة فهو عصبها الرئيسي لوضع سياساتها وبرامجها العملية موضع التنفيذ ولذلك يشكل تطوير الجهاز الإداري للدولة أحد المحددات الرئيسية للإرتقاء بالقدرات التناقسية للإقتصاد الوطني. إن إشارة الخطاب السامي إلى أهمية إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة يضع الأسس المتينة لإنطلاق الرؤية المستقبلية عمان 2040 على قواعد صلبة لتحقيق أهدافها الطموحة وغاياتها النبيلة للإنتقال بعمان إلى مرحلة جديدة قوامها الكفاءة والإبداع والإبتكار والإرتقاء بالعمل المؤسسي العام إلى أعلى درجات الشفافية والنزاهة.
شهدت السلطنة خلال الخمسة عقود الفائتة تنمية إقتصادية وإجتماعية شاملة، رافقها توسع كبير في أنشطة القطاع الحكومي. ولقد كان لتلك المرحلة مقتضياتها وضروراتها حيث كانت الدولة تقوم بمجموعة أدوار إقتصادية وإجتماعية وسياسية في آن واحد. ولكن ظل الجهاز الإداري للدولة يزاد توسعاً وترهلاً وبيروقراطية على مدى السنوات الفائتة إلى أن وصل حجم الحكومة في الإقتصاد إلى مستوى يفوق الكثير من المستويات العالمية. ففى حين يبلغ عدد الوزارات في السلطنة 28 وزارة بالإضافة إلى عدد كبير من الهيئات والمجالس والشركات الحكومية، نجد أن سويسرا التي تعتبر واحدة من أغنى دول العالم يدير إقتصادها 8 وزراء فقط. في حين تبلغ عدد الوزارات فى أمريكا 14 وزارة ، وفى ألمانيا 13وزارة، وفرنسا بها 15 وزارة، وأما الصين التى يبلغ تعداد سكانها مليارًا و400 مليون نسمة فتسير أمورهم 18 وزارة فقط.
تبلغ المصروفات الجارية للوزارات المدنية لعام 2019 4490 مليون ريال عماني؛ تستحوذ الرواتب والأجور على 3500 مليون ريال عماني مشكلة بذلك 76% من إجمالي المصروفات الجارية. وهذا يعني أن النسبة الأكبر من الإيرادات العامة للدولة تذهب للرواتب والأجور وليست للإستثمار وتراكم رأس المال مما يتسبب في الإضرار بمعايير الإستدامة المالية ويضعف حجم الإدخارالعام ويبطأ من عملية النمو الإقتصادي. وتؤكد الإحصاءات الرسمية أن عدد العاملين بالجهاز الإداري للدولة يقترب من 174,107 موظفاً، في حين يبلغ التعداد العام للسكان العمانيين 2.6 مليون نسمة مما يعني أن هناك موظف واحد لكل 14 مواطن. وفي هذا الشأن تشير الإحصاءات إلى أن المتوسط العالمي هو موظف واحد فقط لكل 70 مواطنًا، وفي ألمانيا التي تعتبر واحدة من أكبر الإقتصاديات في العالم فسنجد أن لديها موظف واحد لكل 140 مواطن. وإذا أخذنا هذه المقاييس الدولية في الإعتبار فإن الجهاز الإداري للسلطنة لا يحتاج أكثر من 40 ألف موظف مما يدل على أن ما يزيد عن 70% من الجهاز الإداري عبارة عن بطالة مقنعة.
وعلى الرغم من الحجم الكبير للحكومة وإرتفاع عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة فإن كفاءة الخدمة متواضعة وتنافسية الإقتصاد العماني متدنية حيث تراجعت السلطنة في مؤشرات التنافسية لعام 2019 بنحو 6 مراكز عن العام 2018 لتصل إلى المرتبة 53 عالمياً. وعوضاً عن ترشيق الجهاز الإداري للدولة تم القفز خطوات للأمام من خلال خلق منظومة موازية لا تختلف كثيراً عن بيروقراطية الجهاز الإداري إلا من خلال تدثرها بمسمى جديد يسر السامعين وأعني بذلك الشركات الحكومية، التي أصبحت اليوم أكثر عبئاً على موازنة الدولة وأقل إنتاجية مقارنة بمؤسسات القطاع الخاص وذات قيمة مضافة متواضعة للإقتصاد الوطني. وعلى الرغم أن العدد الأكبر من الشركات الحكومية ظلت تسجل خسائر مليونية متراكمة طوال السنوات الفائتة دون أن تكون لها أي عوائد إقتصادية تذكر، فقد أستمرت الحكومة في دعمها حيث يبلغ الدعم المخصص للشركات الحكومية في شكل دعم تشغيلي لموازنة 2020 في حدود 185 مليون ريال عماني بالإضافة إلى المصروفات الإستثمارية التي تزيد عن 100 مليون ريال عماني لعام 2020.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن أي نمو أو تطور سواء أكان في التفكير أو التطبيق يستوجب إحداث تغييرات جذرية في هيكلية الجهاز الاداري الحكومي ووضع السياسات الجديدة وجعلها متلائمة مع أولويات المرحلة المقبلة وتطلعات الرؤية المستقبلية 2040. ومن هنا يجب أن تكون منهجية إعادة الهيكلة متكاملة ومترابطة بحيث تتمكن من تشخيص الخلل في ميكانيكية عمل المؤسسات واصلاحها وفق أحدث النظم والمعايير الدولية للمساهمة في رفع مستوي ادائها والتميز في تحقيق الاهداف المستقبلية للسلطنة والقدرة على الاستجابة السريعة للمتغيرات والأزمات الإقتصادية، مع المحافظة على كسب ثقة المواطنين في تمكين وقدرة الاجهزة الحكومية على تقديم الخدمات بالكفاءة والفاعلية ووفق المعايير المعتمدة.
تشير الكثير من الدراسات الإقتصادية أن عملية إعادة هيكلة الجهازالإداري ظاهرة صحية لرفع كفاءة الخدمات وتحسين بيئة الأعمال وتسهيل منظومة الإجراءات ورفع تنافسية الإقتصاد الوطني مما يساعد في جذب الإستثمارات الأجنبية والدفع بعجلة التنويع الإقتصادي وخلق إستدامة إقتصادية طويلة المدى. وقد تصاعد الإهتمام في كثير من الدول منذ أوائل عقد التسعينيات بإصلاح وتطوير الجهاز الحكومي؛ وكان هذا الاهتمام نتاجاً لتضافر مجموعة من الظروف والعوامل التي تحركت ونشطت خلال ذلك العقد ، أهمها تبنّي عدد متزايد من الدول لبرامج الإصلاح الاقتصادي، والتي تضمنت في كثير منها على عناصر تمس الجهاز الإداري للدولة مثل ترشيد الإنفاق العام، كبح العجز المتراكم للموازنة العامة،وإعادة هيكلة أدوار ووظائف الجهاز الحكومي المتصل بالمشروعات العامة، بما في ذلك مشروعات المرافق والخدمات العامة، وإدارة الكثير من الخدمات الحكومية على أسس تجارية أو شبه تجارية.
وفي هذا الإطار يجب علينا التأكيد على أهمية أن تكون عملية إعادة الهيكلة مبنية على منهجية علمية واضحة وأهداف محددة بحيث تحقق عملية إعادة الهيكلة المزيد من الفاعلية والكفاءة، وأن يتم التطوير على ضوء مجموعة من الأهداف المرجوة مثل التخلص من المعوقات الادارية والتنظيمية والترهل التنظيمي والتداخل في الإختصاصات بين الوزارات والوحدات الحكومية، التأكد من مدى مواكبة الهيكل التنظيمي للأهداف الإستراتيجية للرؤية 2040، زيادة درجات التوافق بين حجم الجهاز الإداري العام وبين متطلبات العمل من جهة والتوجهات المستقبلية نحو أجهزة حكومية أقل عدداً وأكثر تخصصاً من جهة أخرى، تعزيز اللامركزية الإدارية على مستوى الأجهزة الرئيسية وفروعها والوحدات التابعة لها، وأخيراً تقييم ضمان جودة أداء الخدمات وفقا لمؤشرات أداء محددة (KPIs).