فضاءات المواطن الصحفي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٩/مارس/٢٠٢٠ ١٢:٠٤ م
فضاءات المواطن الصحفي

د. محمد بن عوض المشيخي

تزخر البيئة المحيطة بالإنسان في هذا العصر بمتغيرات وتطورات تكنولوجية متسارعة ومتطورة لم تعرفها البشرية عبر تاريخها الطويل.

هذه التطورات والاختراعات - السالفة الذكر- قد عجلت بظهور ما يعرف اليوم بالمنابر الافتراضية, التي مكنت الجمهور من المشاركة في الحوارات وتبادل الأفكار، ونقل ما يدور في البيئة المحيطة بهم من اهتمامات وأحداث مصورة عبر هذه المنصات الإعلامية على نطاق واسع. كما تراجعت في الجانب الآخر سلطة الدولة وسيطرتها على مواطنيها ومنافذها الحدودية، وفضاءاتها المفتوحة أمام التدفق الإعلامي والرقمي الذي اخترق هذه الشعوب بلا استثناء, حتى وإن كان هذا التدفق يحمل فكرا دخيلا ومشاهد غير مرحب بها, وهذه هي ضريبة الثورة المعلوماتية. وتتميز هذه المنابر الافتراضية من الإعلام الرقمي - الذي يشكل الهاتف الذكي بما يضمه من وسائل وتطبيقات قوتها الضاربة-؛ بسرعة نقل الخبر، وقلة التكلفة المادية، وبعدها عن عيون الرقابة الحكومية، وتجاوزها لحدود الدول والقارات والوصول إلى أبعد نقطة في هذا الكون، والقدرة على التفاعل مع الجمهور المستهدف.

من هنا ظهر مصطلح المواطن الصحفي لأول مرة عام 2004م ويشير حسب القواميس اللغوية إلى: « التعبير المجازي بأن تصف المواطن بأنه صحفي، وعملياً: أصل المصطلح جاء من دور المواطن في نقل قصة أو خبر أو صورة ما لجمهوره في مدونات الإعلام الجديد أو وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الدور اعتبره منظرو الإعلام شكلاً من أشكال الصحافة والنشر، ولأن لاعب هذا الدور ليس صحفياً بالأساس؛ سمي بالمواطن الصحفي».

وترجع فكرة المواطن الصحفي إلى المُنظّر الإعلامي السويدي الجنسية دينيس ماكويل الذي كتب نظرية (المشاركة الديمقراطية) في الإعلام في عقد الثمانينات من القرن الفائت، حيث بشر بآفاق جديدة قد تتحقق في المستقبل بفضل التكنولوجيا التي يقول عنها «ستكون الأجهزة والمطابع ووسائل النشر رخيصة الثمن وفي متناول المواطن العادي في أي مكان من هذا الكون الرحب. وتتلخص النظرية في دعوة الجماعات المهنية والتجمعات الصغيرة وكذلك المواطنين العاديين إلى تأسيس منابر إعلامية صغيرة يشتركون في إعداد وصياغة مضامينها الصحفية لكي تخدمهم بشكل أفضل وتزودهم بالمعلومات التي يحتاجونها في قراهم وتجمعاتهم المحلية».

وبالفعل ظهرت المدونات ومواقع الدردشة في الولايات المتحدة الامريكية. وكانت البداية مع ذا جلوب (The Glob) وماي سبيس (My Space)، ثم انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية التي نعرفها الآن. وتعد هذه المنابر أحد أبرز المظاهر الإعلامية للثورة الرقمية الجديدة للمواطن الصحفي، إذ شكلت آلية حديثة في عالم التواصل بين الأفراد والجماعات، والتي من خلالها ينقل الانسان ما يخطر على باله من أفكار وأحداث وفعاليات للعالم الخارجي. بلغت شعبية شبكات التواصل الاجتماعي عبر العالم ذروتها بظهور موقع فيس بوك(Facebook) الذي اسسه مارك زوكربيرج عندما كان طالبا في جامعة هارفارد, ولكنه ترك الدراسة في السنة الثانية من أجل متابعة شبكته الاجتماعية الوليدة آنذاك، إذ أصبح لاحقا من أشهر الأغنياء في العالم لكونه الرئيس التنفيذي ل(Facebook) الذي يقدر رأس ماله بأكثر من 300 مليار دولار وقد نجح في استقطاب 2121 مليون مستخدم أي: أكثر من ملياري إنسان. وفي خطوة نحو احتكار المعلومات والسيطرة على سوق الإعلانات في أميركا والعالم استحوذ العملاق الأزرق على أهم منصتين من منصات الجمهور في العالم، هما: الانستغرام (Instagram) الذي يستقطب الجنس اللطيف والمراهقين بالدرجة الأولى.

أما المنصة الثانية فهي تطبيق الواتساب (ًWatsAp) الذي تم شراءه بحوالي 19 مليار دولا قبل عدة سنوات، بينما تجاوز رواده حاليا الملياري شخص. ويعتبر الواتساب الوسيلة السحرية التي تحوي الكثير من المزايا، فهي الأكثر شعبية والأقل تعقيدا من حيث الاستخدام خاصة لكبار السن. لقد غير هذا التطبيق نمط حياتنا وأخذ الكثير من أوقاتنا، لكونه ينقل وينشر عبر شاشته الصغيرة كل المضامين والرسائل المتدفقة من وسائل التواصل الاجتماعي.

أما موقع تويتر (Twitter)) الذي تأسس على يد مجموعة من العلماء الأمريكيين عام 2006م ويبلغ عدد الحسابات النشطة فيه حوالي 327 مليون حساب، ويتميز باختصار الأفكار وإرسالها كرسائل قصيرة بحد اقصى 280 حرفا، حيث يقوم الجمهور المستهدف بإعادة التغريدات المرسلة والإعجاب بها؛ إذا كانت معبرة ومناسبة للمتلقين. وبعد استعراضنا لأهم وسائل التواصل الاجتماعي التي شغلت الدنيا ولم تقعدها، نجد أنها جميعا أمريكية الموطن والهوى، فهي تكرس السيطرة الإعلامية والتدفق الأحادي من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير في مجال المعلومات.

ولعل الاستثناء الأبرز هو ظهور قناة الجزير القطرية الناطقة باللغة الإنجليزية، إلا أنها اعتمدت على طواقم إعلامية ذات تكوين غربي قادمة من قنوات بريطانية وأميركية. وعلى الرغم من ذلك لم تخلو هذه التجربة االعكسية من إضاءات إيجابية لعل أهمها وصول قضايا الجنوب إلى المتلقي في الشمال عبر أدوات إعلامية موجهة مما ساهم في كسر هيمنة واحتكار وسائل الاعلام الغربية في نقل المعلومة.

في الختام يجب أن يتذكر كل المغردين وكتاب وسائل التواصل، أن هناك أمانة ومسؤولية جسيمة تترتب على كل صحفي يحمل القلم، ويحرص على الارتقاء بمهنة الإعلام ورسالته السامية، التي تتجلى في الالتزام بالصدق والموضوعية، والابتعاد عن التهويل وتحريف الحقائق، أو تلوينها؛ لكي لا تُخرق السفينة التي تضم أطرافا ثلاثة؛ الحكومة والمجتمع، وأنت حامل أمانة الكلمة التي عجزت الجبال الشامخة عن حملها.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري.