العودة إلى أساسيات مكافحة المرض

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٧/أبريل/٢٠١٦ ٢٣:٥٠ م
العودة إلى أساسيات مكافحة المرض

جيم أونيل

تتطلب مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات حلول تكنولوجية أساسية. ولمنع ما يسمى بالكائنات الخارقة من حصد نحو عشرة ملايين من الأرواح سنويا بحلول العام 2050، سوف نحتاج إلى ابتكار أنواع جديدة من العقاقير المضادة للميكروبات وتطوير الفحوص التشخيصية السريعة لتجنب المعالجة الغير ضرورية وتفادي إفراطنا الكبير في استعمال المضادات الحيوية.
وحتى الآن تعتبر هذه المساهمات التكنولوجية العالية، على أهميتها، فعالة جزئيا فقط. من أجل معالجة هذه المشكلة بشكل دائم، فإن الخيار الوحيد هو منع حدوث العدوى منذ البداية، بفضل تحسين النظافة والمرافق الصحية، ومراقبة الأمراض. ومن خلال التركيز على هذه الجوانب سنخفض الطلب على الأدوية الجديدة على المدى الطويل بالفعل.
في القرن التاسع عشر، وقبل صناعة الأدوية الحديثة لفترة طويلة ، قاومت المدن الغربية الكبرى الأمراض من خلال السعي لمنع العدوى. ولا يزال هذا النهج الحل الأمثل بالنسبة للمدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية المتزايدة.
لننظر إلى لندن في العام 1850: كانت ظروف عيش الفقراء قاتمة. كان العمر المتوقع للذكور 40 عاما. وكانت الأمراض مثل الكوليرا والسل منتشرة، ولم تكن هناك أي وسيلة للتصدي لهذه الأمراض. وفي سبتمبر من العام 1854، دمر وباء الكوليرا حياة فقراء المدينة، في حي سوهو المركزي، مما أسفر عن مقتل 500 شخص في عشرة أيام فقط.
واكتشف الطبيب الرائد جون سنو أن الكوليرا لم تنتشر من خلال الهواء، كما رأت النظرة التقليدية، لكن من خلال المياه. وقد رصد سنو تطوراندلاع المرض بحي سوهو بتفاصيل غير مسبوقة، ورَسَم خرائط كل حالة. كما أقنعه البحث الذي قام به أن مصدر التفشي كان مضخة المياه المشتركة داخل الحي. وبمجرد إزالة مقبض المضخة، تباطأت وتيرة تفشي المرض بشكل كبير.
العديد من أساليب سنو قابلة للتطبيق المباشر لمقاومة مضادات الميكروبات الحديثة. في البداية أظهرت جهوده فعالية استخدام البيانات لفهم الأزمة الصحية العامة. كما ساعده رسم الخرائط والتحليل الإحصائي على تحديد مركز تفشي المرض وبالتالي الأسباب الجذرية له. إن تركيز سنو على استخدام البيانات لتوجيه تدخله هو مبدأ تٌصر عليه اليوم مؤسسات مثل مؤسسة بيل وميليندا غيتس.
وأشار تفشي مرض الايبولا مؤخرا في غرب أفريقيا، بطريقة مأساوية، إلى أهمية البيانات الجيدة. هذا الوباء ينتشر وبشكل كبير في المناطق التي تعاني من فقر البنية التحتية ونظم المراقبة الأساسية المنهارة. ونتيجة لذلك، فحتى بعد أن أعلنت حالة الطوارئ الصحية العامة بسبب وباء الايبولا وحتى بعد توفير التمويل، كان من الصعب توجيه الموارد لمن كانوا في أشد الحاجة إليها لعدة أسابيع.
ومن المثير للقلق، كما قلت في مقالتي الأخيرة في "مجلة تحذير مقاومة مضادات الميكروبات"، أنه ليس هناك أي نظام منسق على الصعيد العالمي لمراقبة رصد ظهور وانتشار الجراثيم في جميع أنحاء العالم. لا تزال هناك ثغرات أساسية في كيفية جمع البيانات وتبادلها، حتى في أغنى البلدان. والنتيجة هي سلسلة من البقع العمياء الهائلة التي تحرمنا من المعلومات الرئيسية والإنذار المبكر الذي نحتاجه للاستجابة الفعالة لذلك.
و تتمثل المساهمة الرئيسية الأخرى لسنو في التعرف على الدور المركزي الذي يلعبه الماء في نشر الأوبئة مثل الكوليرا، مما لزم السلطات في أوروبا بالاستثمار في تطوير أنظمة المجاري والنظافة العامة والمرافق الصحية. وقبل عقود من اكتشاف علاجات مثل البنسلين، لم يكن هناك بديل سوى الاستثمار في الوقاية للتغلب على الأمراض المعدية وحماية تزايد السكان في المناطق الحضرية.
وقد كان بناء البنية التحتية ناجحا بشكل مذهل: إذ ظهر آخر تفشي لوباء الكوليرا في المناطق الحضرية في أوروبا الغربية في العام 1892، وبحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، كانت تعد الأمراض المعدية من الأسباب الرئيسية للوفاة في معظم أنحاء القارة. وأصبحت العقاقير المضادة للميكروبات متاحة على نطاق أوسع، ومع ذلك، قد تلاشى التركيز عن التدابير الوقائية. وهذا له آثار وخيمة ليس فقط على سكان المدن الذين أجبروا على العيش في ظروف غير صحية، بل ساهم أيضا في ارتفاع مقاومة الأدوية.
واليوم، نجد أن صعوبة الحصول على المياه الصالحة للشرب والمرافق الصحية هي واحدة من الأسباب الرئيسية لمرض الإسهال، القاتل الرئيسي والسبب في كون مئات الملايين من الناس يلجؤون إلى العلاج بالمضادات الحيوية في كل عام. ومعظم هذا الاستهلاك غير ضروري، لكن نظرا لأن سبب الإسهال عادة ما يكون فيروسي، فاٍن تناول المضادات الحيوية في هذه الحالات يساهم في تطوير مقاومة البكتيريا.
وتشير التقديرات التي توصل فريقي إليها أنه في الهند ونيجيريا والبرازيل وإندونيسيا وحدها، يتم معالجة ما يقرب من نصف بليون حالة إسهال سنويا بالمضادات الحيوية. لو كانت هذه البلدان الأربعة تزود مواطنيها بالمياه النظيفة والمرافق الصحية، لكان من الممكن تخفيض هذا الاستهلاك بنسبة 60% على الأقل.
إن مثل هذه البنية الأساسية ستكون مكلفة، وجميع البلدان تواجه خيارات صعبة في الميزانية. لكن هذه البنية الأساسية من أفضل الاستثمارات القيمة التي يمكن لبلد متوسط الدخل القيام بها. عندما يتم تجاوز إشكالية الدخل، فاٍن زيادة فرص حصول السكان على خدمات المرافق الصحية بنسبة 50% تعني إطالة العمر المتوقع بأكثر من تسع سنوات إضافية.
سوف يكون جون سنو مسرورا بهذا التطور. مساهماته المهمة في مجال الرعاية الصحية، واستخدامه الحكيم للبيانات تأكد أهمية أخرى: الاستثمار في مجال النظافة والمرافق الصحية. أحيانا أولئك الذين يدرسون التاريخ، يشعرون أنهم محظوظون بتأكيد هذه الحقيقة.

جيم أونيل الرئيس السابق لبنك جولدمان ساكس لإدارة الأصول، والأمين التجاري للوزارة المالية البريطانية