سُنّة الاقتصاد

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٢/مارس/٢٠٢٠ ١١:٥٩ ص
سُنّة الاقتصاد

محمد محفوظ العارضي

جرى الحال في حياة المجتمعات الإنسانية على أن «التغيير سُنّة الحياة»، إلا أن عالم اليوم يمر بمسارات جديدة أدت إلى مضاعفة هذا التغيير على نحو غير مسبوق، ومن أبرز تلك المسارات: العولمة، والتطور التكنولوجي، وانتشار ثقافة التركيز على الأولويات المعنوية. ومما لا شك فيه أن عصرنا الحالي يتصف بسرعة وتيرة التغيير على نحوٍ يخلق جملة من التحديات والفرص الجديدة التي تتطلب مقاربات مختلفة في التعامل مع الواقع. وبطبيعة الحال، يتمتع العامل الاقتصادي بحضور ملموس في أغلب القضايا الإنسانية لكونه حافزاً قوياً لاتخاذ القرارات وأحد أهم محركات تنفيذها، لذا أصبحت زيادة التعقيد وتسارع التغيرات هي السمات الأبرز في المشهد الاقتصادي، باعتباره نشاطاً اجتماعياً وجزئاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات الإنسانية، إلا أن رصد التوجهات الجديدة التي ترسم معالم اقتصاد المستقبل ليست بمهمة مستحيلة.

أنماط جديدة

فلننظر إلى أنماط الأنشطة الاقتصادية الجديدة التي أصبحنا نتبناها كمستهلكين ومتلقي خدمات في حياتنا اليومية، كتطبيقات «أوبر» و»كريم» مثلاً. لم يعد استقلال سيارة شخص غريب شكلاً من أشكال المجازفة الأمنية في عالمنا اليوم بعد أن تمكن التطور التكنولوجي من تعزيز مبدأ الثقة بين مقدّم الخدمة ومتلقيها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جعلت التكنولوجيا من الثقة عملة جديدة تحتاج المشاريع التجارية إلى كسبها من المستهلك دوناً عن غيره، وإلا لن تستمر، نظراً لانتشار ثقافة التقييم ووجود تطبيقات ومواقع لتصنيف حجم الثقة الذي يتمتع به كل مشروع تجاري بل وكل مقدّم خدمة في كثير من الأحيان.

وبهذا أصبح مدى الرضا الذي يبديه المستهلك عبر قنوات التكنولوجيا أحد المعايير التنافسية الأساسية في العمل الاقتصادي. وساهمت التكنولوجيا كذلك في ظهور نموذج «التبادل الثنائي» في أنشطة التجارة، حيث يلجأ الناس أو الشركات إلى منصات على شبكة الإنترنت تم تخصيصها لتبادل الأغراض المستعملة أو بيعها دون وسيط، مما يساعد توسيع سبل التجارة والمعاملات ويضمن الاستخدام الأمثل والأكثر استدامة للأصول في ظل ندرة الموارد.

ومع انتقال المجتمعات الإنسانية إلى مستويات أعلى من الرفاهية، انصرف تركيز الناس إلى التجارب غير المادية وأصبحت أساليب التسويق أكثر تركيزاً على السرد القصصي وبيع «المفاهيم والأفكار»، أي أنها تروّج للـ «التجربة» التي يمنحها المُنتج للمستهلك والحاجة المعنوية التي يسدها عوضاً عن التركيز على خصائص المنتج في حد ذاتها.

شركة الأحذية الرياضية «نايكي»، على سبيل المثال، أطلقت تطبيقاً على الهواتف الذكية لقياس النشاط البدني لدى كل مستهلك، بحيث يكون لها دور في نمط حياة المستهلك وتساهم في تحقيق أهدافه الحقيقية، وذلك عوضاً عن التسويق لخامة كل حذاء ومشاركة المستهلك معلومات لا تهمه.

ويُعرف الاهتمام بخلق سلسة من التجارب التي تترك أثرها على نمط حياة المستهلك باسم «اقتصاد التحول». وبالطبع، عادةً ما يكون التركيز على اقتصاد التحول في المجتمعات التي تعّدت خط الفقر لأن اهتمامات هذا النوع من المجتمعات لا ينصب على الاحتياجات المادية الأساسية فقط. إلا أن اقتصاد التحول أصبح أكثر انتشاراً اليوم مما مضى حتى في المجتمعات الفقيرة، ويمكن القول أن العروض الاقتصادية الأكثر تنافسية اليوم هي تلك التي تتيح للمستهلك تجارب جديدة تركز على الاحتياجات المعنوية لديه.

مواكبة التغيير

لقد ساهمت العولمة في انتشار المفاهيم والتوجهات الاقتصادية الجديدة، وصار المستهلك أكثر وعياً مع تزايد أعداد العلامات التجارية من حوله، فأصبح يتطلع إلى خدمات ومنتجات تستهدف احتياجاته على مستويات جديدة، ولم يعد يكتفي بأن يسد المنتج جوعه أو يكسيه أو يمنحه حياة كريمة وغير ذلك من أساسيات. وفي سبيلنا إلى التنمية، لابد أن تستوعب المشاريع التجارية في منطقتنا تلك التغييرات، لأن وعي المستهلك الكبير باحتياجاته المعنوية يعني أننا يمكننا توظيف هذا الوعي في خدمة قضايا في غاية الأهمية.
قضية الاستدامة البيئية وشح الموارد مثلاً يمكن تعزيزها من خلال منصات تبادل الأغراض المستعملة، وقضية اتساع الفجوة بين الغني والفقير يمكن حلها من خلال إطلاق منصات للعمل التجاري تلبي وتستكشف الاحتياجات الجديدة لدى المستهلك، وقضية البطالة يمكن حلها من خلال منصات تجارية تصنع جسوراً قوية للتواصل بين الباحثين عن العمل والشركات، وما إلى ذلك من قضايا.
لن يهتم المستهلك بحجم الشركة بقدر ما سيهمه مدى قدرتها على ابتكار خدمات ومنتجات تتوافق مع التوجهات الجديدة. ولكن تبني توجه اقتصادي جديد في أي مكان لا يكون مسؤولية المشاريع التجارية فحسب، لأن الدولة أيضاً لها دور في التشريع والتنظيم لضمان عدم استخدام الأساليب الجديدة على نحو غير مشروع وكذلك لتشجيع المستهلك على تحفيز النشاط الاقتصادي بتوجهاته المختلفة.
إذا كان التغيير سُنّة الحياة، فهو قطعاً وبالضرورة سُنّة الاقتصاد، لكونه علماً من العلوم الاجتماعية ولارتباطه الوثيق بحياة الإنسان التي لم ولن تبقى على حال واحد قط. ولا يمكن التعامل مع التغيير بذات الأساليب المعتمدة قديماً، بل لابد من التأقلم والتكيف وتسنُّح الفرص الكامنة في التوجهات الجديدة.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار

محمد بن محفوظ العارضي