النزاهة والمحاسبة في دولة المؤسسات

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠١/مارس/٢٠٢٠ ١١:٣٤ ص
النزاهة والمحاسبة في دولة المؤسسات

د. محمد بن عوض المشيخي

كان الحدث الأهم و الأبرز الأسبوع الفائت؛ هو الإطلالة المباركة لعاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه- عبر شاشات التلفزيون العماني والعربي.

إذ وجه خطابه التاريخي الثاني للشعب العماني والعالم قاطبة. رسم فيه السلطان الجديد خارطة طريق واضحة المعالم للمرحلة المقبلة؛ فقد تمحور الخطاب حول أهم الملفات الساخنة التي تشغل الرأي العام ؛ كتطبيق مبدأ المحاسبة والنزاهة، وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة؛ خاصة الوزارات التي أصابها الترهل وتراجع أداؤها في خدمة المواطنين. كما تطرق الخطاب إلى الحاجة لوضع سياسات وطرق جديدة لتوظيف الكوادر العمانية، التي عانت الأمرين عبر السنين الفائتة. والتأكيد على حرية الرأي والتعبير حسب ما ورد في النظام الأساسي للدولة.

وقد كانت كلمات الخطاب معبرة وملامسة بحق لتطلعات المواطن والمقيم؛ الذي اعتبرها وصفة موفقة، وطرحا حكيما للكثير من التحديات التي تواجه المجتمع العماني خاصة الشباب الذين يتطلعون إلى المشاركة في صنع القرار في المرحلة المقبلة.

ومصطلح النزاهة الذي يعني في أصله اللغوي: « البعد عن السوء وترك الشبهات «. بينما تشير الحوكمة « إلى القوانين و النظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء ؛ عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف المؤسسة « .

فالحوكمة والنزاهة لا يمكن لهما أن يتحققا بأي حال من الأحوال بجرة قلم أو حسن النية بالمسؤولين وصناع القرار في أي بلد من بلدان العالم ، بل نحتاج إلى تأسيس قواعد صلبة ومنهجية واضحة ؛ تقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في اختيار قيادات نزيهة وأمينة وتحمل ضميرا حيا وكذلك تتمتع بكفاءات علمية رفيعة، ونظرة ثاقبة في التخطيط، والتنفيذ السليم للخطط والمشاريع ، والتوظيف في المناصب والإدارات في الوزارات والشركات الحكومية، فالبعد عن المحسوبية والعلاقات الشخصية في بعض التعينات الوزارية و الإدارية أصبحت من الضروريات التي يجب الوقوف عليها والتخلص منها في المرحلة الجديدة.
أثبتت الأيام والتجارب في الشرق والغرب؛ أن الهيئات الرقابية المكلفة بحماية المال العام، لا يمكن لها القيام بعملها الرقابي بمفردها دون مساندة من البرلمانات والإعلام الحر المتزن الذي يعتمد على المصداقية و التوازن والموضوعية في رسالته،والسلطة القضائية التي لا تخاف في الحق لومة لائم.

فالإعلام الوطني الحكومي الذي يتمتع بإمكانيات وموازنات بعشرات الملايين، تخصص له سنويا من موازنة الدولة، ويحتضن كوادر مدربة ذات تأهيل عال، لكنه ينظر بعين واحدة لمختلف القضايا والرؤى ؛ وهي عين الحكومة أو السلطة التنفيذية التي لا تريد أفكارا وأرقاما وحقائق في وسائل الإعلام ؛ قد تخالفها وتعارضها في الرأي،ولا تتفق مع أطروحاتها ووجهات نظرها.

وأتذكر هنا مقولة لأحد رؤساء التحرير للصحف اليومية في السلطنة عند ما كنت طالبا في مرحلة دراسة الدكتوراه في التسعينات من القرن العشرين؛ إذ قمت بزيارته في مقر الجريدة لجمع المعلومات المتعلقة بالبحث، فيقول : «هناك العديد من المشاريع العملاقة التي تنفذها الدولة في حواضر المدن العمانية تحت مسمى تطوير نزوى – صور – وعبري، وغيرها من المدن، لكن الإعلام كان دوره منقوصا ؛ فالصحافة لا تعرف ما يدور خلف الكواليس، خاصة ما يتعلق بالمناقصات، وملكية الشركات التي تنفذ المشاريع، وعلاقة كبار المسؤولين في الدولة بهذه المشاريع العملاقة، بل دور الإعلام هنا يتركز في إبراز ما تم إنجازه من هذه المشاريع، وافتتاحها من قبل كبار المسؤولين».
وتعد الرقابة الذاتية واحدة من أهم المعوقات التي تواجه الإعلام الحكومي والخاص على حد سواء، فالخوف من الوقوع في المحظور جعل القائمين على هذه الوسائل يترددون في نشر قضايا الفساد و المحسوبية إلا ما ندر. وفي دراسته عن حرية التعبير في عمان ؛ يقول أحد الأساتذة المرموقين في جامعة السلطان قابوس: «إن وسائل الاتصال الجماهيري في عمان ، بما فيها الصحافة؛ تخضع لقيود قانونية وإجرائية ؛ الأمر الذي يحد كثيرا من حركة الصحفيين وحريتهم في الحصول على المعلومات. كما أن الصحفي بمرور الوقت وزيادة القيود ؛ أصبح يمارس رقابة ذاتية سلبية على ما يريد نشره «.

وتكمن المشكلة هنا في التشريعات والقوانين التي لا تواكب هذه المرحلة؛ فالمرجع الأساسي لما تنشره وسائل الإعلام العمانية؛ هو تفسير وترجمة حرفية لقانون المطبوعات والنشر الذي يعود إلى عدة عقود مضت ؛ قبل ظهور ثورة الاتصال،وشبكة الإنترنت وما حملتهما من فضاءات رحبة ومنابر جديدة كالإعلام الجديد، ووسائل التواصل الاجتماعي. ولا شك أن التقنيات التي أفرزتها الأجيال المتعاقبة في التكنولوجيا والثورة الرقمية؛ جعل من وظيفة الإعلام التقليدي في بلدنا وظيفة صعبة، وغير مقبولة للجمهور في الألفية الثالثة. فقد أسفر عن وجود عوائق وتعليمات وأوامر تحول دون التناول الجريء لكثير من قضايا المجتمع. فالعالم من حولنا، مثلا يشهد انفتاحا إعلاميا، وحرية غير مسبوقة. وليس ذلك بسبب وجود التشريعات الصحفية التي تحمي الصحفيين فقط، بل لوجود إرادة سياسية عليا نابعة من أعلى الهرم في القيادة، وثقة في المؤسسات الحكومية المنوط بها الإشراف المباشر على الإعلام، التي تؤمن بدور الصحافة والإعلام كسلطة رابعة ؛ تكرس كل إمكانياتها وأدواتها المهنية ؛ لمراقبة السلطات الثلاث؛ المتمثلة بالحكومة، والسلطة القضائية التي تحكم بين كل الناس بالعدل والمساوة والسلطة التشريعية التي تضع القوانين والأنظمة، لتكفل للمجتمع الحياة الكريمة.

وفي أعقاب هذا النطق السامي لجلالة السلطان هيثم الذي تناول فيه المحاسبة والنزاهة؛ تتجه الأنظار إلى مجلس الشورى لتطبيق وتنفيذ اختصاصاته التي نص عليها النظام الأساسي للدولة في مجالي التشريع والإستيضاح من للمسؤولين أعضاء الحكومة.

وإذا كنا قد أسهبنا في الحديث عن حقوق المواطن، وكشفنا الطرق والأساليب المختلفة لمراقبة اداء الحكومة؛ فيجب تذكير هذا المواطن الذي حظى بالرعاية من لدن السلطان قابوس - طيب الله ثراه - في ذلك العهد الذي استمر لنصف قرن،فإن قدرة الله وعنايته قد ساقت له سلطانا جديدا يتمتع بكل مواصفات القيادة الحكيمة، ومفاتيح النجاح التي تؤهله للإبحار بهذا الوطن إلى بر الأمان. ولأن المواطن شريك أساسي في النزاهة والمحاسبة؛ فعليه تقع مسؤوليات كبيرة في الإخلاص فالموظف الذي يقتضي عمله إنهاء إجراءات المراجعين ويماطل أو يغيب عن عمله، والمدرس الذي يربي الأجيال لكنه يتهاون في القيام بواجبه المقدس، والتاجر الذي يغش الناس في البضائع؛ يجب أن يتم إخضاع هؤلاء لمبدأ المحاسبة والنزاهة؛ مثلهم كمثل المسؤول المقصر بالواجب الوطني.

وأختم مقالي بهذه الكلمات المعبرة التي قالها جلالة السلطان في خطابه الأخير؛ وقد اخترقت بالفعل قلوب العمانيين وعقولهم «..إننا إذ نعاهد الله عز وجل على أن نكرس حياتنا من أجل عمان وأبناء عمان كي تستمر مسيرتها الظافرة ونهضتها المباركة فإننا ندعوكم أن تعاهدوا الله على ذلك». وفي هذا المقام نقول لجلالتكم إننا على العهد ماضون لنكتب معا فصلا جديدا من النهضة العمانية المتجددة.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري