الصين وأزمة الهوية الاقتصادية!

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٧/أبريل/٢٠١٦ ٠٥:٢٠ ص
الصين وأزمة الهوية الاقتصادية!

خلافاً للغرب، حيث أشار رئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش الأب ذات يوم ساخراً إلى "مسألة الرؤية الاقتصادية"، تتعامل الصين مع الاستراتيجية الاقتصادية بجدية تامة. وقد تجلى هذا بوضوح في منتدى الصين للتنمية في بكين، وهو التجمع المهم الذي يُعقَد في بكين سنوياً منذ عام 2000، بعد اختتام دورة مجلس الشعب الصيني مباشرة.
كان أول من تصور المنتدى هو رئيس الوزراء السابق تشو رونج جي ــ أحد أكثر الإصلاحيين ميلاً إلى الفِكر الاستراتيجي في الصين الحديثة ــ وسرعان ما تحول منتدى الصين للتنمية إلى منبر رفيع المستوى للمشاركة بين كِبار صناع السياسة الصينية ومجموعة دولية واسعة من الأكاديميين، والمسؤولين الأجانب، وكبار رجال الأعمال. وفي جوهره، يمثل المنتدى اختبار إجهاد فكريا ــ يضطر قادة الصين إلى الدفاع عن الاستراتيجيات والسياسات الموضوعة حديثاً أمام جمهور من الخبراء الصارمين المخضرمين من الخارج.
ليس من السهل دوماً استخلاص رسالة مفردة من مثل هذا الحدث، خاصة وأن منتدى الصين للتنمية، الذي كان مجرد لقاء حميم بسيط، تحول إلى استعراض مبهر على غرار دافوس يضم نحو خمسين جلسة موزعة على ثلاثة أيام. ولكن بعد أن حضرت ستة عشر من اجتماعات المنتدى السبعة عشر (فاتني أول اجتماع)، فأظن أن منتدى الصين للتنمية عام 2016 كان غنياً بشكل خاص بالمعاني الاستراتيجية المرتبطة بالتحديات الاقتصادية العصيبة التي تواجه الصين. وفي اعتقادي أن القضية الظاهرة الجلية التي تجاهلها الجميع كانت الهوية الأساسية للنموذج الاقتصادي الصيني ــ نموذج يقوده المنتِج في مقابل نموذج يقوده المستهلك.
كانت معجزة التنمية في الصين والتي دامت ثلاثين عاما ــ نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحقيقي بنسبة 10% طوال الفترة من 1980 إلى 2010 ــ تدور حول براعة البلاد في الاضطلاع بدور المنتِج الأكبر. وبقيادة قطاعي التصنيع والبناء تمتعت الصين بدفعة قوية فريدة من نوعها. ففي العام 1980، كانت الصادرات والاستثمارات تشكل مجتمعة نحو 41% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، وبحلول عام 2010، بلغت الحصة نحو 75%. وكانت الزيادة الأكبر في قطاع التصدير ــ ستة أضعاف تقريبا، من 6% في عام 1980 إلى 35% في العام 2007 ــ في ظل القدرات الجديدة والبنية الأساسية، وانخفاض تكلفة اليد العاملة، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وهي العوامل التي جعلت من الصين المستفيد الأكبر على مستوى العالمي من تسارع العولمة وارتفاع تدفقات التجارة.
بيد أن نموذج المنتِج لم يكن الصيغة النهائية الحاسمة لتحقيق طموحات الصين المتمثلة في التحول إلى مجتمع مزدهر باعتدال بحلول عام 2020. وقد آذن بهذا الإنجاز تعليق شهير ألقاه رئيس الوزراء السابق ون جيا باو، والذي شخص بشكل صحيح نموذج المنتِج في العام 2007 بأنه "غير متوازن، وغير مستقر، وغير منسق، وغير قابل للاستمرار".
وبطبيعة الحال كانت هذه كلمات رمزية ترجمت إلى المدخرات الفائضة، والاستثمار المفرط، والطلب المفتوح على الموارد، والتدهور البيئي، واتساع فجوات التفاوت في الدخول. وكان الاحتياج واضحاً لنموذج جديد ليس فقط للإفلات من هذه المآزق، بل وأيضاً لتجنب "فخ الدخل المتوسط" اللعين الذي تنزلق إليه أغلب الاقتصادات النامية السريعة النمو عندما تبلغ عتبات الدخل التي كانت الصين تقترب منها بسرعة.
وقد أثار تعليق ون جيا باو مناقشة داخلية محتدمة أسفرت عن اتخاذ قرار استراتيجي أساسي يقضي بإعادة التوازن إلى الاقتصاد الصيني من خلال التحول إلى نموذج قائم على المستهلك، وفقاً لإطار الخطة الخمسية الثانية عشرة للفترة 2011-2015. وقد شدد هذا النهج على ثلاث عواقب رئيسية: التحول إلى الخدمات لتعزيز خلق فرص العمل؛ والتوسع الحضري المتسارع لزيادة الأجور الحقيقية؛ وشبكة الأمان الاجتماعي الأكثر قوة لتزويد الأسر الصينية بالقدر المطلوب من الشعور بالأمان لإعادة توجيه دخولها المكتسبة حديثاً من الادخار الوقائي المدفوع بالمخاوف إلى الاستهلاك الاختياري.
كانت نتائج الخطة الخمسية الثانية عشرة التي اكتملت الآن مبهرة ــ وخاصة في ضوء التحدي الهائل الذي يحمله التغير البنيوي لأي اقتصاد. ولكن هنا تتجلى فعالية التركيز الاستراتيجي الصيني بأكبر قدر من الوضوح ــ حيث يوفر إطاراً شاملاً لتوجيه الاقتصاد من النقطة ألِف إلى النقطة باء.
بيد أن هذه الرحلة لا تزال بعيدة عن الاكتمال. ففي حين تجاوزت الصين أهدافها في مجال الخدمات والتوسع الحضري، كانت النتائج في النهاية قاصرة في العديد من الجوانب عن بناء شبكة أمان اجتماعي أكثر قوة (أي ممولة بالكامل). ونتيجة لهذا، ارتفع الاستهلاك الشخصي بشكل طفيف من 35% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 إلى 37% فقط في العام 2015.
وعلى الرغم من الأعمال غير المنجزة في مجال إعادة التوازن بقيادة المستهلك، يبدو أن الصين تتبنى الآن تحولاً آخر في الاستراتيجية الاقتصادية الأساسية ــ بفضل مجموعة واسعة من "مبادرات جانب العرض" التي تتراوح من خفض القدرة وتقليص الديون إلى الإبداع والإنتاجية. وقد اكتسب هذا التأكيد الطابع الرسمي في "تقرير العمل" الأخير الذي أصدره رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانج والذي وضع الخطوط العريضة للاستراتيجية الجديدة للخطة الخمسية الثالثة عشرة التي أقرت للتو (والتي تغطي الفترة من 2016 إلى 2020).
في تحديد "المهام الثماني" الأعلى لعام 2016، وضع لي إصلاحات جانب العرض في المرتبة الثانية من الأهمية ــ ولا يسبقها سوى تركيز الحكومة على الاستقرار الاقتصادي في مواجهة تباطؤ النمو في الصين. وفي المقابل، جاء التأكيد على تعزيز الطلب المحلي ــ الذي كان موضع تركيز الصين لفترة طويلة على استراتيجية إعادة التوازن التي تقوم على المستهلك ــ في المرتبة الثالثة على ما يسمى أجندة العمل.
في الصين، حيث تصاغ المداولات الداخلية بعناية، لا يحدث أي شيء بالصدفة. ففي خطابه الرئيسي في منتدى الصين للتنمية هذا العام، أوضح نائب رئيس مجلس الدولة وعضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي تشانج قاو لي هذه النقطة، مؤكداً على الحاجة إلى توجيه مبادرات جانب العرض نحو "التهديد الرئيسي" للصين. وفي المقابل، لم تُذكَر مسألة إعادة التوازن بقيادة المستهلك إلا على نحو عابر.
ربما أكون مذنباً بمناقشة تفاصيل دقيقة. ففي نهاية المطاف، يحتاج كل اقتصاد إلى التركيز على كل من جاني العرض والطلب. ولكن هذا التحول في التركيز ــ في الخطة الخمسية الثالثة عشرة فضلاً عن المناقشة والرسائل التي يبثها منتدى الصين للتنمية هذا العام ــ يبدو كأشارة مهمة. وأنا أخشى أنه قد يشير إلى تحول سابق للأوان بعيداً من النموذج القائم على المستهلك والعودة إلى المنطقة المريحة للصين والمتمثلة في نموذج المنتِج الذي كان لفترة طويلة أسهل انقياداً للهندسة الصناعية للتخطيط المركزي.
الواقع أن الاستراتيجية هي موطن القوة الأعظم الذي تتمتع به الصين، فهي تضفي المصداقية على التزامها بالتحول البنيوي. ولكن يظل الكثير مطلوباً لإعادة الحياة إلى المستهلك الصيني. صحيح أن التحدي عصيب، ولكن التحول بعيداً عن هذا الالتزام الاستراتيجي ربما يشكك في التحول البالغ الأهمية اللازم الآن في هوية الصين الاقتصادية الأساسية.

ستيفن س. روتش