سلطان النور

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٣٠/يناير/٢٠٢٠ ١٢:٢٨ م
سلطان النور

نصر البوسعيدي

"شعبي وأخوتي .. كان بالأمس ظلام دامس ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على عُمان وعلى أهلها .. حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق ".

هكذا كانت كلماته تخترق الأفئدة لشعب كسره القهر والعذاب والجهل والصراع والحروب والصراع على السلطة، شعب لم يعتد بتاتا على الاستماع إلى قائد يوجه له خطاباته الفصيحة بتلك اللغة الرصينة والصوت الفخم الذي كان ينطق بها سلطان شاب عمره 29 عاما اسمه قابوس بن سعيد استلم الحكم بديلا عن والده وكأنه مثلما يصفه البعض هبة الدعاء ونعمة الله التي جعلها لوطن أثقله الانقسام.

لم يكن السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه ابن سلاطين وحسب، بل كان يملك كاريزما مختلفة تماما عن بقية اسلافه، ولا ريب أن والده السلطان سعيد بن تيمور يحسب له تلك التربية العميقة جدا التي خصصها لابنه قابوس منذ ولادته وحتى عنفوان شبابه، كان السلطان قابوس رحمه الله منذ طفولته لم يرى من عُمان إلا صلالة مقر ولادته واقامته، فوالده ونتيجة انشغاله كثيرا بترتيب شؤون عُمان من مشاكلها وديونها والأطماع الخارجية حرص بذات الوقت على أن يعزل عائلته في صلالة عن خضم السياسة ومشاكل الانقسام ليرسل ابنه بعمر 18 عاما إلى بريطانيا حتى يكمل دراسته عام 1958م بعدما تتلمذ في صلالة بربوع المدرسة السعيدية.

حينما وصل المغفور له بإذن الله إلى إنجلترا أقام في منزل المشرف الخاص به حسب أوامر والده وهو الأكاديمي فيليب رومان الذي كان له الفضل في أن يجعل هذا الشاب العربي ابن السلاطين مطلعا على الثقافة الأوربية والإنجليزية بشكل خاص.
بعدها وجه والده السلطان سعيد مستشاره الإنجليزي السابق واسمه الرائد ليسلي تشونسي بالإشراف على ابنه قابوس، ثم التحق رحمة الله عليه عام 1960 إلى الأكاديمية العسكرية بساندهيرست حتى تخرجه بعد عامين ومن ثم أكمل تدريبه العسكري في كتيبة البنادق الاسكتلندية وبعد ذلك واصل مشواره التدريبي في ألمانيا ليتخرج بعدها برتبة ملازم ثاني.
بعدها أمره والده بجولة حول العالم والاقتراب أكثر من عالم السياسة وفق الجدول المعد لذلك ولمدة ثلاثة أشهر، ليعود بعدها إلى صلالة مباشرة في عام 1964 ويظل حبيس القصر يتزود من العلوم الفقهية والفلكية والتاريخية والفلسفية دون مخالطة عامة الشعب بالشكل المثالي نتيجة أوامر والده، وقد قال جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه عن اهتمام والده بتعليمه في القصر : « كان إصرار والدي على دراستي العميقة لديني وتاريخ وثقافة بلدي عظيم الأثر في توسيع قدراتي ووعي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية جمعاء، كما أنني استفدت من التعليم الغربي وحياتي كجندي».
قدر للسلطان قابوس طيب الله ثراه إذن أن يعود في نفس العام الذي نشبت فيه مشكلة ظفار وحربها التي طالت وأصبحت خطيرة جدا على عُمان بأجمعها التي أصبحت تواجه خطر انقسام عنيف ودموي مع فقر بسبب عدم الاستفادة حينها من عائدات النفط، بالإضافة إلى مشكلة الجهل والأمراض التي قتلت آلاف العمانيين نتيجة سياسة العزلة التي كان لها مبرراتها عند والده السلطان سعيد الذي ذاق ذرعا من المشكلات المتعاقبة في ظل حكمه رغم جهوده، ولكن نمط التفكير الأخير الذي سار عليه جعل عُمان تعيش وكأنها في العصور الوسطى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى حتى نهاية حكمه بعدما طالبه الجميع بالتغير والتنازل ولو جبرا لابنه الشاب قابوس.
وتم كل ذلك في فجر النهضة بتاريخ 23 يوليو من عام 1970م هذا التاريخ الذي سيظل محفورا في تاريخ عُمان ممجدا أبد الدهر، فهو تاريخ كسر القيود والانطلاق نحو النور ومحاربة جهل الظلام والفقر والمرض والشتات والتعصب.
لقد كان أول ما فعله المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه أن خاطب شعبه واعترف بأخطاء الماضي بشجاعة فائقة فكسب ولاء المتعبين من أبناء شعبه الذين أرادوا حقا أن ينعمون بالراحة والاستقرار، وكأن الجميع بعد كل خطاب له يقول: نحن شعب قد أثقله الألم، شعب انغمس في حزن الظلام وحان وقت المضي للنور مع سلطان يحب النور ويقهر الصعاب.
فأعلن مباشرة سياسة التسامح لكل المعارضين في حرب ظفار وربوع عُمان ورحب بالعائدين إلى نور الوحدة الوطنية بكل كرم، وأطلق سراح كل سجناء الرأي في عهد والده، ووضع بعضهم في مناصب عليا بالحكومة، وتوجه إلى العاصمة مسقط لأول مرة في حياته عام 1970م ليعرفه شعبه أكثر ويقترب منهم بعدما كان أغلب أهل عُمان لا يعرفونه.
وغير اسم البلاد مباشرة من مسقط وعُمان إلى سلطنة عُمان رمزا لوحدة الأرض والشعب، وتغير العلم العماني من اللون الأحمر إلى ثلاثة ألوان الأبيض والأحمر والأخضر مع شعار الوطن سيفين وخنجر، بمشهد تاريخي وهو يقبل فيها علم بلاده الجديد بعدما تسلمه من يد عمه السيد طارق بن تيمور والد سلطاننا الحالي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه.
ولتأكيد الوحدة الوطنية لم يكتفي السلطان قابوس طيب الله ثراه بالمكوث في قصره وإصدار الأوامر بل كان يتنقل ليل نهار بين جميع قرى ومدن عمان بما يعرف بالجولات السامية والبرلمانات المفتوحة ليلاقي شعبه وجه لوجه مع مسؤوليه ويناقشون أمور البلاد وكل المتطلبات ويصنعون معا مجدا لنا ولجميع الأجيال مستقبلا.
طلب من الجميع التعاون وتحمل المسؤوليات لبناء عُمان، خاطب شيوخ القبائل بدبلوماسية عالية ,اعطى لهم مكانتهم حتى يساهمون معه في بناء دولة المؤسسات تدريجيا والانتقال إلى سلطة القانون والعدل لا سواه، فلا فرق في عُمان اليوم أمام القانون بين صاحب سمو أو شيخ قبيلة أو وزير أو سيد أو أقل عامل فالجميع سواسية أمام ميزان العدل هكذا كان يتقدم بنا رحمه الله وطيب ثراه.
في نفس الوقت أعاد علاقات عُمان الخارجية بشكل سريع وحكيم وعالج المشكلات الحدودية مع دول المنطقة ليتجنب السياسات المراهقة في الصراع على الحدود ويتفرغ لبناء دولة عصرية وشعب مثقف وواعي وينهي حرب الوكالات والأفكار اليسارية الشيوعية في ظفار وحالة التخلف والتردي الصحي في عُمان قاطبة بنفس التوقيت، فأنهى الحرب في ظفار عام 1975م وبشر شعبه والفرحة تملء قلبه قائلا :
« انتصارنا هو أول انتصار على الشيوعية العالمية الذي تقوم به دولة عربية في ميدان القتال»
كما أنه شرع مباشرة ببناء المدارس والمستشفيات في كل مكان، ويكفي أن نعلم أن من مدرستين او ثلاث مدارس فقط في عام 1970م، استطاع بعد عام واحد فقط أن يوفر لأبناء شعبه 45 مدرسة ضمت 15 ألف طالب وطالبه وهكذا أصبحت الأعوام التي تلت تشهد افتتاح مئات المدارس والتي انتشرت في كل أرجاء عُمان، بالإضافة إلى انه افتتح جامعة السلطان قابوس عام 1986م والتي تعتبر اليوم من أهم الجامعات في دول الخليج العربي.
أما من الناحية الصحية فقد استطاع سلطاننا الراحل منذ بداية حكمه وبأوامره وتوجيهاته القضاء على الأمراض المنتشرة المعدية كالملاريا والحصبة والكوليرا والتراخوما وإلخ من أمراض فتكت بأهل عمان كثيرا وتسببت بوفاة الآلاف منا، بالإضافة إلى عدد كبير من وفيات الأطفال الرضع سنويا.
تاريخيا أول مستشفى تم تأسيسه في عمان كان في عام 1910م عن طريق الإنجليز ويحمل 15 سريرا فقط، وتبعه عيادة الارسالية الأمريكية في عام 1904م عن طريق الممرضة الأمريكية إليزابيث ديبري كانتين، وتتالت جهود بعض الإرساليات المتواضعة والمتمركزة في مسقط وعالجت هذه الجهود عشرات الآلاف من المواطنين واستطاعت الإرسالية الأمريكية من افتتاح مستشفى السعادة للنساء بمطرح في عام 1910م ورغم كل الجهود المتواضعة في مسقط من قبل الإرساليات والمتطوعين، كانت عمان بشكل عام صحيا متردية للغاية قبل السبعين، فكل هذه الجهود المتواضعة التي سبقت لم تكفي ولا توجد كهرباء بل كان الأطباء يستخدمون في العمليات بطاريات السيارات لجلب الطاقة اللازمة لمستشفى الإرسالية الأمريكية في الستينات وكان اشهرهم الدكتور دونالد بوش، والذي كرمه السلطان قابوس طيب الله ثراه بعدما حكم ومنحه الجنسية العمانية هو وزوجته المعاونة له، وما ذلك إلا دليلا على اهتمام السلطان الراحل بالقطاع الصحي ورواده منذ بداية حكمه لنشهد اليوم أكثر من 66 مستشفيا، و 226 الف وحدة صحية في جميع أنحاء البلاد، لتحتل عُمان حسب شهادة منظمة الصحة العالمية في عام 2000م المركز الثامن من بين أفضل الدول على مستوى العالم لزيادة معدلات عمر العمانيين من 47 سنة قبل عام 1970م، إلى 76 سنة نتيجة تحسن وتطور القطاع الصحي.
لم يتوقف السلطان قابوس رحمه الله عن هذا الحد في بناء دولته العصرية بعد نجاحه الباهر في ترسيخ الوحدة الوطنية بين جميع أفراد شعبه، بل كان يحرص كل الحرص على الاهتمام بالفنون والثقافة فأسس مثلا منذ السبعينات وزارة التراث والثقافة بل أنه أصدر قانون خاص يتعلق بجمع المخطوطات العمانية في عام 1976م للحفاظ عليها وترميمها وتحقيقها وطباعتها ونشرها، ولكم أن تتخيلون أن رجل يخرج من حرب قبل عام من ذلك وهو يضع جل اهتمامه الحفاظ على المخطوطات العمانية لحمايتها من الاندثار كونها ذاكرة الأمة العمانية وأمهات مصادر مختلف العلوم، وأما من ناحية الفنون فاهتمامه كبير جدا فمثلا في عام 1985م أسس الأوركسترا السلطانية المعروفة، كما أنه شيد دار الأوبرا السلطانية في عام 2011م وهي أول دار أوبرا متكاملة في الخليج العربي ، كما أنها تعتبر من أفخم دور الأوبرا فنيا على مستوى العالم.
وأما في الجانب الثقافي كمثال واحد فقد خصص سلطاننا الراحل لجميع العرب والعمانيين جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وكذلك خصص كراسي السلطان قابوس في أرقى الجامعات العالمية، وخصص كذلك كأول حاكم عربي جائزة معنيه للبيئة منذ عام 1989م تشجيعا للشعوب في صون البيئة والحفاظ عليها، وغيرها من جوائز للعمل التطوعي وحفظ القرآن والتنمية المستدامة وذلك على سبيل المثال لا الحصر في اهتماماته بكل عناصر قيام المجتمع المتمدن فلا مقال كهذا يستطيع حصرها والكتابة عنها مفصلة.
كان العالم أجمع يترقب مندهشا من عزيمة ذلك السلطان العربي قابوس الذي حمل السلاح والتسامح والنور والعزة والكرامة بروح نبيلة كريمة، والدبلوماسية العالية من أجل السلام العالمي بعقل حكيم مع توحيد عُمان والخروج بها إلى التقدم والازدهار، فالمصالحة الوطنية التي عمل عليها كانت هي الأساس في كل سياسته وأفعاله وهو من يحكم بكل وسطية ومرونة مع الحفاظ على العادات والتقاليد والهوية الوطنية وتعاليم الدين الإسلامي السمح، فكان ينبذ كل تعصب وجمود، ويدعو شعبه دوما للتعلم والتفكر والوعي أمام كل التحديات والمنجزات والمحافظة على المكتسبات وهو من قال لنا جميعا في آخر وصية له : « ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» صدق الله العظيم.

المرجع :

-عُمان .. فجر جديد المواءمة بين الأصالة والحداثة، ليندا باباس فانش، ترجمة: ناصر بن سعيد بن أحمد الكندي، مكتب مستشار صاحب الجلالة السلطان للشؤون الثقافية 2016م، طبع في مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان.