قابوس ما مات وانتوا موجودين

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٣/يناير/٢٠٢٠ ١٢:٠٤ م
قابوس ما مات وانتوا موجودين

نصر البوسعيدي

نعم رحل الجسد الطاهر إلى رحمة الله ولكنه لن يرحل أبدا من نفس كل عُماني ... قابوس ما مات وانتوا موجودين قالها أمير الكويت صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الصباح معزيا لأرواحنا جميعا ومضى بحفظ الله ورعايته بعدما كان الفقد علينا مؤلما بوفاة أعز الرجال وأنقاهم قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي..

نحن قابوس وأخلاقنا قابوس ومبادئنا قابوس وتسامحنا قابوس ومحبتنا للسلام والخير قبس قابوس، وفعلا سيبقى في نفوسنا للأبد وعلى أثره سنسير وراء سلطان مفدى اختاره لنا ورآه لعُمان سيدا محسنا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ووفقه في السير بنهضة عُمان نحو المستقبل الزاهر بعدما أرسى السلطان الراحل والدنا قابوس طيب الله ثراه الأرضية الصلبة لنهضة أخرى قادمة.

هنا سأحاول جاهدا أن أنتقي مجموعة من الكلمات السامية لسلطاننا المعظم الراحل باني نهضتنا من خلال قراءة متواضعة لمجموعة كبيرة من خطاباته التي كان يلقيها في بعض الأعياد الوطنية لعدم مقدرتي على حصرها كلها فلن نوفي أصلا حقها مهما كتبنا والتي كان يحرص على أن يبثها للشعب منذ بداية توليه الحكم في عُمان عام 1970م، فتوجيهاته السامية من خلال كل خطاباته ستظل منهجا حيا نتدارسها دوما لنأخذ منها تلك النصيحة الأبوية العميقة.

ولا يخفى على أحد أن هذه الخطابات والتي فيها قراءات للمستقبل ورسائل مباشرة لشعب عُمان والأمة العربية والعالم أجمع كانت ولا زالت لها الأثر الكبير في تحفيز الأنفس من أجل الفداء والعطاء والعلم والعمل للسير بأوطاننا نحو كل شيء جميل.

لقد كانت لخطاباته التأثير الإيجابي الأكبر على من عارض في فترات طويلة حكم والده للأسباب التي تعلمونها، فكسرت بواقعية تأثيرها وصدقها وبصوته الفخم ولغته الفصيحة المعروفة كل أسباب التفرقة القائمة قبل عام 1970م، وهو من جعل من سيرة نبي الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبراسا وقدوة في حسن تعامله وكرمه ونبل أخلاقه وتسامحه وحكمته وعفوه عند المقدرة.

ولنبدأ بقراءة مختصرة لبعض العبارات التي كانت من ضمن هذه الخطابات فالبعد الفكري الذي تحمله تلك الكلمات السامية للسلطان الراحل قابوس المعظم طيب الله ثراه تستحق فعلا التوقف عندها كثيرا والتفقه فيها والاستفادة منها وجعل كل نصيحة فيها نصب أعيننا جميعا فهي من شكلت ملامح النهضة العمانية وسياستها الثابتة الراسخة بالمبادئ والحكمة والاتزان وإفشاء السلام بعدما أعلن العفو العام مخاطبا شعبه بضرورة البناء وانهاء أسباب الخلاف بعدما اعترف بأخطاء الحكم السابق لوالده بكل شجاعة معاهدا شعبه بتغير الواقع المؤلم إلى واقع مشرق.

وحينما حل العيد الوطني الأول لسلطنة عُمان مثلا في عام 1971م قال المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس رحمه الله لشعبه وهو يشير بشكل جلي لوعده الذي قطعه على نفسه بتوفير حياة أفضل لكل عماني بشرط مشاركة الشعب مسؤولية هذا البناء على أسس ثابتة وأخلاقية مستمدة من الدين الإسلامي وأصالة العادات والتقاليد : « خطتنا في الداخل أن نبني بلدنا ونوفر لجميع أهله الحياة المرهفة والعيش الكريم، وهذه غاية لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة أبناء الشعب في تحمل أعباء المسؤولية ومهمة البناء ولقد فتحنا أبوابنا لمواطنينا في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وسوف نعمل جادين على تثبيت حكم ديمقراطي عادل في بلادنا في إطار واقعنا العماني العربي وحسب تقاليدنا وعادات مجتمعنا جاعلين نصب أعيننا تعاليم الإسلام الذي ينير لنا السبيل دائما».

وفي العيد الوطني الثاني بعام 1972م قال السلطان قابوس طيب الله ثراه لشعبه عن أسباب حرصه للاحتفال بالعيد الوطني من كل عام، فهو يعتبر أن تلك الاحتفالات تحمل في طياتها رمزية عميقة جدا تتمثل في العزة والكرامة، وهو يدرك أن العمانيين عانوا كثيرا من هم الحروب والمشاكل والفقر والمرض والحزن لسنوات طويلة خالية من الفرح وتهذيب النفس بالسعادة، فالاحتفالات الوطنية من وجهة نظر المغفور له بإذن الله كانت من أجل أخذ استراحة بسيطة تحفز الجميع بعدها للانطلاق والعمل والبناء من أجل الوطن، ولا غرابة أن أقول هنا أن السلطان قابوس رحمه الله كان الملهم الأول لمظاهر الفرح الوطني في عُمان تخفيفا من أعباء التعب النفسي لشعبه فقال :
« ...الأعياد الوطنية للأمم رمز عزة وكرامة ووقفة تأمل وأمل للماضي والمستقبل، ماذا فعلنا وماذا سنفعل، وليست المهرجانات والاحتفالات والأفراح سوى نقطة استراحة والتقاط الأنفاس لمواصلة رحلة البناء الشاقة والانطلاق بالبلاد نحو الهدف المنشود، إن هدفنا السامي هو إعادة أمجاد بلادنا السالفة، وهدفنا أن نرى عُمان وقد استعادت حضارتها الآفلة وقامت من جديد واحتلت مكانتها العظيمة بين شقيقاتها العربيات في النصف الثاني من القرن العشرين وأن نرى العماني يعيش على أرضه سعيدا وكريما».

وفي نفس هذا الاحتفال وجه سلطاننا الراحل رسالة عميقة للمعلمين ولكل من له علاقة بوزارة التربية والتعليم المعنيين بالدرجة الأولى بمسؤولية تعليم الأجيال الذي يراهن جدا على وعيهم في مستقبل عُمان فقال لهم :
« أهم ما يهمني أن الفت إليه انتباه القائمين بالتعليم هو أن يكونوا هم القدوة والمثال الطيب لتلاميذهم وأن يغرسوا في نفوس النشء تعاليم الدين الحنيف ويربوهم على الأخلاق الفاضلة ويوقظوا في نفوسهم الروح الوطنية ليكونوا أجيالا من الشباب قادرين على الاضطلاع بمسؤولياتهم، فإذا حملوا المشعل كانوا تواقين دوما إلى الأفضل سباقين إلى المبادرة والإنتاج بالعمل».

ولم ينس جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- كذلك في هذا الخطاب أن يبشر شعبه بعلاقات عُمان الخارجية ومن هي أول الدول التي أصبح لعمان فيها سفارات دبلوماسية والعكس صحيح بعدما كانت عُمان شبه معزولة عن العالم الخارجي قبل عام 1970م بعدما منح بشكل متسارع لآلاف المواطنين جوازات سفر لإتاحة حريتهم في السفر والتنقل بعد أعوام طويلة من الحرمان، فقال : « في هذا العام افتتحت الخارجية سبع بعثات دبلوماسية في الدول الآتية : الكويت، تونس، القاهرة ، لندن ، نيويورك ، إيران، الهند ، كما افتتحت الدول التالية سفارات لها في العاصمة مسقط وهي : المملكة المتحدة، الهند، باكستان، إيران ، الأردن، الولايات المتحدة ، وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، أما فرنسا وهولندا فأقامتا علاقاتهما الدبلوماسية معنا بسفراء غير مقيمين، وننتظر قريبا أن يقدم سفير تونس أوراق اعتماده وكذلك تم إعلان التمثيل الدبلوماسي بين عُمان وكل من إيطاليا واليابان وألمانيا الغربية».

أما العيد الوطني الثالث فقد قال جلالة السلطان الراحل وهو يخاطب شعبه ويؤكد أن قوة الشعب العماني يجب أن تستمد من الأخلاق والمبادئ والإخلاص للوطن : « إن رقي الأمم ليس في علو مبانيها، ولا في وفرة ثرواتها، إنما رقيها يستمد من قوة إيمان أبنائها بالله ومكارم الأخلاق وحب الوطن والحرص والاستعداد للبذل والفداء في سبيل المقدسات».

وشدد جلالة السلطان الراحل في خطابه هذا على نهج التسامح مع المعارضين مذكرا إياهم بأن العفو يطالهم جميعا من أجل عُمان ووحدتها وتماسك شعبها مع تأكيده بأنه في المقابل لن يتهاون للدفاع عن كرامة عُمان أمام أي تخريب فقال :« موقفنا بالنسبة لما يسمى جبهة تحرير عُمان والخليج العربي هو نفس الموقف الذي بدأنا به عهدنا الجديد، فقد قلنا آنذاك عفا الله عما سلف، عودوا إلى وطنكم واستأنفوا حياة البناء والتعمير فإن ظلام الأمس سيتحول إلى نور وإننا جميعا نواجه مسؤولية تاريخية أمام هذا الوطن وعلينا واجب التكاتف لبناء الدولة الحديثة، أما أولئك الذين يصرون على التمرد والتخريب أو يحاولون العبث بالأمن والصيد في الماء العكر فإننا سنضربهم بقوة وسيتحملون مغبة ما يفعلون، حفاظا على شرف كياننا وحرمة مقدساتنا».

ووجه سلطاننا الراحل في العيد الوطني الرابع تحية لقواته المسلحة ورجال الفرق الوطنية في ظفار وهو معهم يحارب من أجل عُمان ويواجه مع قواته أي محاولة لزعزعة الوحدة الوطنية من قبل المتمردين ذوي الأفكار اليسارية معاهدا إياهم على تسليحهم بالوعي والقوة والوطنية فقال :« إنني أيها الأبطال أعيش لحظات العمر معكم أعمل على أن تكونوا جيشا قويا مسلحا بالوعي والإخلاص لهذا التراب الغالي وقوة رادعة بين جيوش أمتنا العربية لأعداء كلمة الحق ودحر فلول الباطل».

أما العيد الوطني الثامن فقد عبر من خلاله جلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه عن حزنه اتجاه الدول العربية التي دخلت فيما بينها بصراعات لا حد لها فقال مخاطبا زعماء وقادة العرب وكأنه قرأ مستقبل المنطقة ونحن نشهد اليوم نتيجة كل ذلك أزمات لا حد لها من الخصام كالغزو العراقي الغاشم على الكويت وما تبعها من أزمات مؤلمة على العراقيين والعالم العربي، والأزمة الخليجية وحرب اليمن وصراع السلطة في سوريا وليبيا وغيرها :« على زعماء العرب أن يدركوا حقيقة أن الشعوب العربية لم تعد بعد الآن قادرة على احتمال الانحطاط إلى مستوى التراشق بالتهم وافتعال الخلافات التافهة فيما بينهم والتي كانت سببا في تدهور العلاقات بين دولهم...، إن السؤال الذي يطرح نفسه هو ترى من المستفيد من هذه الخلافات والمنازعات والانشقاقات بين الشقيق وشقيقه؟! وما على المرء إلا أن ينظر حوله ليقف على الجواب، إن المستفيد هم أولئك الذين يطمحون إلى سيادة العالم وذلك يجعل عالمنا العربي مسرحا للصراع السياسي والعسكري لتحقيق مطامحهم، وبينما الزعماء العرب يشغلون أنفسهم بمخاصمة ومقارعة بعضهم البعض نرى هذا الشكل الجديد من الاستعمار آخذا بالتوسع».

وكان في العيد الوطني التاسع يخاطب شعبه بقضايا كثيرة منها القضية الفلسطينية والتي اعتبرها سلطاننا الراحل طيب الله ثراه من أهم القضايا التي يجب أن يتم فيها إنهاء الظلم عن الشعب الفلسطيني من قبل العدو الصهيوني وبأن تحقيق العدالة لفلسطين سبب رئيسي في السلام بالشرق الأوسط فقال :« الخطر الأكبر يكمن في عدم إصلاح الأخطاء التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وعدم وضع نهاية للآلام والمصائب التي حلت به، وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها العالم وأن يعمل على إيجاد تسوية تعيد للشعب الفلسطيني كامل حقوقه وتحفظ كرامته، فلا عناد إسرائيل وتصلبها وتحديها لإرادة الأمم المتحدة ولا الأعمال المؤذية التي يقوم بها أولئك الذين يرون أن من مصلحتهم استمرار هذا الوضع يجب أن تقف في سبيل تحقيق هذا الهدف، لذا فإن عُمان تعلن بصراحة أنها ستؤيد بقوة أي مبادرة بناء يقوم بها أي زعيم عربي أو أي زعيم آخر من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية».

وحمل نفس هذا الخطاب في عام 1979م إشارات مهمة وبنظرة ثاقبة لجلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه وهو يقول لشعبه والعالم أجمع عن أهمية حفظ أمن مضيق هرمز للصالح العام وللبشرية والذي يتعرض اليوم مثلا نتيجة الاضطرابات السياسية بالمنطقة لخطر الأعمال الإرهابية خاصة في ما يتعلق بإرهاصات الصراع الأمريكي الإيراني وتطبيل البعض اليوم للحرب وكأنه يقرأ المستقبل حسب الوقائع التي كان يعايشها فقال :« نحن نرى بأن جميع الدول التي تستفيد من الملاحة في هذا المضيق سواء أكانت من الدول المنتجة أو المستهلكة للنفط تقع عليها مسؤولية المساهمة في حماية هذا الممر المائي الحيوي ضد خطر الأعمال الإرهابية أو أي شكل آخر من العدوان، وإننا نحث هذه الدول على ذلك...، إن تعاون الدول الشقيقة في المنطقة هو ضروري أيضا للحفاظ على أمن هذه المياه ولهذا فإن الموقف اللامسؤول الذي تتخذه بعض الدول المعروفة منذ زمن بعيد بنشاطاتها التخريبية هو موقف يدعو للأسف والاستغراب الشديد بصفة خاصة، فالانغماس في المظاهر التي لا تتسم بالنضج والوعي السياسي يجب ألا يكون وسيلة لتهديد السلام والاستقرار العالمي وحياة الملايين من البشر بالخطر».

ومخافة الإطالة سأتوقف هنا لأقول للجميع إن خطابات سلطاننا الراحل قابوس بن سعيد طيب الله ثراه وأسكنه الجنات بحد ذاتها تحمل في طياتها الكثير من الحكمة، والتمعن في كل كلمة فيها واجب علينا لنسير على بصيرته من أجل عُمان ودماء الشهداء والتضحيات وكل ذلك الجهد الذي أسس من خلاله نهضة مباركة أصبحت مضرب المثل أمام العالم أجمع، فهو من أسس أرضية صلبة وثابتة لنكمل حاضرنا اليوم بكل أمل وتفاؤل مع جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه ويسر له الأمر والبطانة الصالحة ليسجل صفحات ناصعة أخرى من تاريخ عُمان بالعطاء والسلام والحكمة والتقدم نحو مستقبل أفضل.

مرجع الخطابات السامية :

- المفكر قراءة فكرية في ثلاثين خطابا ساميا لجلالة السلطان الجزء الأول – مرحلة التأسيس الفكري 1971م-1980، محمد بن خلفان العاصمي، الطبعة الأولى 2019م.