صداع الخروج البريطاني

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٦/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:٣٥ ص
صداع الخروج البريطاني

محمد عبد الله العريان

خلال زيارة قمت بها مؤخراً إلى المملكة المتحدة، أذهلني مدى هيمنة مسألة ما إذا كان لزاماً على البلاد أن تبقى في الاتحاد الأوروبي على وسائل الإعلام، ومناقشات مجالس الإدارة، والمحادثات على العشاء. ففي حين تستحوذ الشعارات والبيانات القصيرة على القدر الأعظم من الاهتمام، هناك قضايا أخرى أشد عمقاً تجعل نتائج استفتاء الثالث والعشرين من يونيو عُرضة لدرجة عالية من عدم اليقين ــ حتى أن حدثاً واحداً ربما تنتهي به الحال إلى اختطاف القرار.
بطبيعة الحال، تميل الحجج التي يستشهد بها في الأرجح على الجانبين إلى كونها الأكثر اختزالا. فعلى أحد الجانبين هناك أولئك الذين يحذرون من أن الخروج من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يتسبب في انهيار التجارة، وتثبيط الاستثمار، ودفع المملكة المتحدة إلى الركود، والإيذان بزوال مدينة لندن كمركز مالي عالمي. وهم يشيرون إلى انخفاض قيمة الجنية الإسترليني حالياً باعتباره مؤشراً رئيسياً لعدم الاستقرار المالي الذي سيصاحب الخروج البريطاني.
وعلى الجانب الآخر، هناك أولئك الذين يزعمون أن الخروج البريطاني كفيل بتخليص المملكة المتحدة من أغلال بيروقراطية الاتحاد الأوروبي ووقف تدفق أموال دافعي الضرائب البريطانيين إلى بلدان أخرى. كما يضع المعسكر المؤيد للخروج نفسه موضع المقاتل في سبيل حماية بريطانيا من تدفق يتعذر ضبطه من المهاجرين، ومن الإرهاب المستورد، ومن قوانين يصوغها أجانب يفتقرون إلى فهم الثقافة البريطانية وتقديرها.
في حملة صاخبة وفظة ــ والتي أحدثت الانقسام بين المحافظين بالفعل وساهمت في تعظيم الشعور بعدم الارتياح داخل حزب العمال بشأن زعامة الحزب ــ تصبح جاذبية مثل هذه الحجج التبسيطية واضحة جلية. بيد أن الخروج البريطاني أمر أشد تعقيداً مما توحي به البيانات والتصريحات. والواقع أن العديد من القضايا الأساسية التي ينبغي لها أن تشكل نتيجة الاستفتاء تظل خاضعة لدرجة عالية من عدم اليقين. ولا يفسر هذا عدم قدرة أهل الفِكر والمثقفين البريطانيين عن التوصل إلى الإجماع بشأن هذه القضية فحسب؛ بل إنه يترك مسألة الخروج البريطاني تحت رحمة تطورات اللحظة الأخيرة.
على مستوى أكثر جوهرية، كانت مصالح بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تتمحور حول مكانتها باعتبارها منطقة تجارة حرة مشحونة من نوع ما وكياناً يعمل على تمكين "جواز السفر المشترك" للخدمات المالية. ولكن في حين يدعم البريطانيون الحركة الحرة للسلع والخدمات، فإنهم ليسوا حريصين بشكل خاص على حرية حركة العمالة. وهم لا يهتمون كثيراً بالاتحاد "المتزايد التقارب" الذي يتسم بالتكامل السياسي والاقتصادي الشامل.
ويتناقض هذا بشكل حاد مع الرؤية التي يناصرها العديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بلدان أساسية مثل فرنسا وألمانيا، والتي تنظر إلى سوق الاتحاد الأوروبي المشتركة باعتبارها نقطة انطلاق نحو تعميق التكامل، وليست غاية في حد ذاتها. وفي ظل الأذى الذي أحدثته حروب الماضي، والرغبة في دعم النزعة الإقليمية كوسيلة لتحقيق النجاح في اقتصاد عالمي يتسم بالسيولة، يبدو الاتحاد المتزايد التقارب وكأنه المفتاح إلى ضمان السلام المستمر والرخاء.
بيد أن الموقف أشد تعقيداً من مجرد التوفيق بين رؤيتين واضحتين ولكنهما متنافستان. ففي ضوء الخلاف الواسع النطاق ــ بما في ذلك داخل المملكة المتحدة ذاتها، كما يوضح الاستفتاء ــ حول الكيفية التي ينبغي للترتيب "الصحيح" أن يبدو عليها، يصبح إيجاد حل يرضي جميع الأطراف أمراً مستحيلا.
برغم نجاح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بعد مفاوضات صعبة، في تأمين التنازلات من قِبَل زملائه من زعماء أوروبا بشأن ما قد يحدث إذا بقيت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، فإن لا أحد يدري حقاً ما الذي قد يحدث إذا صوت المواطنون البريطانيون لصالح الانسحاب. فمن دون معرفة الترتيبات الإقليمية المحددة التي قد تلي الخروج البريطاني، لا يستطيع المعسكر المؤيد للاتحاد الأوروبي أن يسوق حجة اقتصادية ومالية حاسمة لصالح البقاء. ففي نهاية المطاف، في أعقاب فترة نسلم بأنها ستتسم بالتفكك، ربما تنتهي الحال بالمملكة المتحدة إلى نوع من ترتيبات الارتباط التي تحفظ لها بعض امتيازاتها الحالية، فتحد بالتالي من الانقطاع الأبعد أمدا.
والمعسكر المناهض للاتحاد الأوروبي ليس أفضل حالا. فمن الصعب أن تثبت أن العضوية في الاتحاد الأروبي ــ التي يصورها المعارضون باعتبارها تطفلية وتخريبية ــ جعلت بريطانيا مادياً في حال أسوأ. ومن الواضح أن الاتحاد المتزايد التقارب الذي يعارضه أنصار الخروج البريطاني بشدة بعيد كل البعد عن كونه أمراً مؤكدا. بل إن الاتحاد الأوروبي كان يناضل من أجل التصدي بشكل جماعي للتحديات التي تواجهه ــ وخاصة أزمة اللاجئين، التي أجهدت بالفعل فكرة السفر بلا جواز سفر داخل منطقة شنجن (أحد أكثر إنجازات التكامل الأوروبي وضوحاً وشهرة ونيلاً للتقدير).
في مواجهة كل هذا القدر من عدم اليقين، سوف يضطر الناخبون البريطانيون في نهاية المطاف إلى اتخاذ القرار على إساس اعتبارات عملية واقعية وليست استراتيجية. ولعل الاختيار الأكثر واقعية يتمثل في البقاء في الاتحاد الأوروبي، في الوقت الراهن على الأقل، وبالتالي الحفاظ على خيار تغيير الرأي جماعياً في وقت لاحق، إذا ظهرت معلومات جديدة تبرر ذلك.
ويميل البعض إلى الدفع بشدة أكبر. فهم يعتقدون أن أفضل نسخة من هذا "الوسط المبلبل" بحكم الأمر الواقع يمكن تحقيقه من خلال لعبة "من يجبن أولا". فتصوت المملكة المتحدة بالخروج الآن، على أمل أن يمنحها الاتحاد الأوروبي المذعور المزيد من التنازلات، بل ويبدل رؤيته للاتحاد المتزايد التقارب. وفي ظل هذه الاستراتيجية العالية المخاطر، ربما تنتهي الحال بالمملكة المتحدة إلى صياغة الاتحاد الأوروبي بشكل حاسم بما يتفق مع تفضيلاتها. ولكن نظراً للتحديات الأخرى التي تواجه الاتحاد الأوروبي الآن، فإن هذه ليست نتيجة مرجحة.
ولهذا السبب، يصبح رهان بريطانيا الأفضل هو البقاء في الاتحاد الأوروبي. فمثل هذا النهج من شأنه أن يمكن المملكة المتحدة من تجنب الاضطرابات شبه المؤكدة في الأمد القريب، والاستفادة من التنازلات التي نجح كاميرون في تأمينها بالفعل، والإبقاء على خيارات المستقبل مفتوحة، وخاصة مع تطور الاتحاد الأوروبي ذاته. ولكن هذا لا يعني أنها ليست مقامرة. ففي نهاية المطاف، لا تجلب التصرفات البرجماتية النتائج المرجوة دوما.
في غياب رؤية استراتيجية مُحكَمة، قد تنتهي الحال بالمواطنين البريطانيين إلى تجاهل الواقعية التحليلية واتخاذ القرار بشأن كيفية التصويت في الاستجابة لحدث مفاجئ. وفي ضوء الهجمات الإرهابية المروعة في باريس في نوفمبر وفي بروكسل الأسبوع الفائت، لا يجوز للمرء أن يتجاهل احتمال تحول التصرفات البائسة من قِبَل جهات تخريبية غير تابعة لدولة بعينها إلى عامل محوري يحدد نتيجة الاستفتاء على تفاعلات تاريخية للدول القومية. وإذا تحققت هذه الإمكانية المروعة، فسوف تكون مأساة من جميع الجوانب.

كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، ورئيس مجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية،