المعترك التنموي المقبل

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٥/ديسمبر/٢٠١٩ ١٢:٠٩ م
المعترك التنموي المقبل

يوسف بن حمد البلوشي

من غير الحكمة أن تداراي عملية التنموية بعفوية مطلقة في ظل وجود بديهيات اقتصادية واجتماعية وسياسية ومعطيات واضحة يجب التعامل معها بشكل جدي وجديد في ذات الوقت، وخاصة في ظل تعاظم التحديات الحالية والمستقبلية وعلى رأسها التحدي الخاص بفرص العمل، وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي وإيجاد مصادر تمويل متنوعة للمالية العامة.

فالتنمية ليست إلا محصلة للسياسات العامة المتبعة وتوليفة الشراكة بين أنشطة القطاع الخاص والحكومة ومصالح الأفراد ومؤسسات المجتمع.

من المعلوم أن السلطنة تمر بمنعطف يتطلب تحقيق قفزة تنموية نوعية، حجر الزاوية فيها صياغة وتنفيذ سياسات عامة مناسبة في الوقت المناسب، بما يتيح التعامل مع التحديات واقتناص الفرص المتاحة. بيد أن تحقيق ذلك يحتاج إلى فهم عميق للمتغيرات المختلفة وبذل جهود من قِبل الجهات المعنية بالتنفيذ، والتي قد تواجه صعوبة بالغة بسبب سرعة تجدد الأولويات التي تتطلب ديناميكية وتفاعل مع التطورات على مختلف الأصعدة.

وعلى الرغم من أيماننا المطلق بسلامة السياسات العامة في السلطنة من حيث أدوات وأسلوب وآليات التنمية والتي حققت أهدافها في مراحل سابقة من عمر السلطنة. إلا أن طبيعة المرحلة المقبلة وتحدياتها جنبا إلى جنب مع جاهزية ومقومات السلطنة تستوجب تحولا صريحا في التوجهات العامة والأدوار المنوطة بالفاعلين الرئيسين في مسار التنمية وهم الحكومة ومؤسسات الأعمال وأفراد المجتمع. وذلك للعديد من الاعتبارات؛ فحاجات وأولويات التنمية في السلطنة منذ بداية عصر النهضة إلى الآن تغيرت تغيرا جذريا كما أن الاعتبارات التي تفرضها طبيعة مرحلة النمو التي وصلت إلى جاهزية عالية في البنى الأساسية والتشريعية يحتم إيجاد سياسات عامة جديدة قادرة على جني ثمار الاستثمارات الضخمة وتعظيم الاستفادة من الجاهزية والمكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم.

ويجب ألا نغفل الاعتبارات ذات صلة بالتغيرات الديموغرافية وتزايد عدد السكان وما صاحبه من زيادة الطلب على الخدمات المختلفة وارتفاع سقف توقعات أفراد المجتمع وتبدّل احتياجاتهم من جانب، وزيادة عدد الباحثين عن العمل من جانب آخر، ما يستوجب توسيع حجم الاقتصاد والقاعدة الإنتاجية لإيجاد فرص عمل لأبناء السلطنة.

كذلك، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التغيرات الهامة في قطاع الطاقة وارتفاع درجة عدم اليقين بمستقبل وأسعار النفط والذي يمثل شريان الحياة والمصدر الرئيس لتمويل كافة الأنشطة الاقتصادية في السلطنة.

والتغيرات المتسارعة في عهد الثورة الصناعية الرابعة وإسقاطات ذلك على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها والتي تنادي بتغيير السياسات والآليات التقليدية في مختلف الجوانب.إننا اليوم أكثر من أي وقت في أمس الحاجة إلى فهم الإطار العام المتسم بالتعقيد والتداخلات لهذه السياسات، فضلا عن المتغيرات والمعطيات والخلاصات المهمة. فالجمود والركود الاقتصادي الذي تعاني منه العديد من الدول يعزى بشكل مباشر إلى حالة عدم اليقين وضبابية السياسات والإجراءات المتخذة لمعالجة القضايا الكبرى. إننا نحتاج إلى الإدارة الذكية للسياسات العامة نابعة من فهم السياق الأوسع لهذه السياسات، ما يتطلب ضرورة الغوص في التداخلات والتشابكات بين المتغيرات الكلية لاستيعاب وفهم هذه الروابط والتشابكات (التقاطعات) التي تحكم العلاقة بين المتغيرات (من يؤثر ومن يتأثر) قبل الشروع في صنع السياسات العامة ووضع حلول للاختلالات الواضحة التي يرزح تحت وطأتها الاقتصاد العماني والتي تمس جميع عوامل الإنتاج.

من وجهة نظر الأرقام والحقائق حققت السلطنة قفزات في النمو الاقتصادي خلال المرحلة السابقة، إلا أنه يمكن وصفها بالمتباينة وغير المستدامة لارتباطها واعتمادها بشكل مباشر على القطاع الهيدروكربوني. أما النجاح المحدود في رفع إنتاجية عناصر الإنتاج المختلفة وتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية وجاهزية البنى الأساسية فإنه يتطلب تحول جذري في أساليب العمل وتغيير في الأدوار على مختلف الاصعدة، وتحديدا الأدوار الجديدة للحكومة ومؤسسات الأعمال وأفراد المجتمع. مع الاستفادة بلا شك من مقومات الموقع الجغرافي والمكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم. ما يوسع دائرة الفرص لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة خاصة مع انطلاق رؤية عمان 2040 التي ينتظر منها الجميع أن تقود عملية التحول الشامل في السياسات العامة، وفي جميع مفاصل العملية التنموية.

إن التغيير والتحول سنّة كونية، فالمجتمعات إما أن تتبدل أو تتبدد، وتأجيل اتباع سياسات عامة لحل المشكلات يزيدها تعقيدا ويضاعف تكلفة حلها. كما أن التحول في السياسات العامة يتطلب قيادة وتخطيط متكامل باستخدام الأدوات المنهجية والأساليب الذكية لتحقيق نتائج مقبولة. كذلك يحتاج إلى توافق حول ضرورة التحول ومبرراته وإنضاج القناعات بين كافة الفاعلين بذلك. ومن المؤكد أن تحقيق الطموحات والتحولات الاقتصادية لا يحدث تلقائيا ولا يوجد عقار جاهز لتحقيق التنمية؛ بل هناك سياسات عامة تناسب كل دولة ومرحلتها التنموية ومكامن قوتها والفرص المتاحة لها والتي يتم ربطها ببعض من خلال خلطة خاصة تجمع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والاستثمارية والصناعية وغيرها لتعمل معا بتنسيق وتناغم كبير.

إن وجود إطار محكم لإدارة السياسات المختلفة بشكل متسق ومتناغم لإحكام إدارة الدورة الاقتصادية والتي هي نتاج لدورات الأنشطة التجارية المحلية هي ضرورة حتمية لا خيار، وذلك بوجود قيادة (مايسترو) تعمل على تحقيق ذلك بما يتماشى مع كل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية (مراحل الانحسار والانكماش/‏ مراحل النمو والازدهار) خاصة أن لكل مرحلة توليفة خاصة من السياسات تضمن إدارة الاقتصاد بشكل انسيابي وعدم تعرضه للصدمات، في ظل تحديات الدين العام وضيق القاعدة الإنتاجية
أما الحقيقة الأخيرة التي نؤكد عليها فهي أن السبق دائما ما يكون من نصيب الدول الأسرع في تطبيق سياسات عامة تتناسب مع تحدياتها.

البوابة الذكية للاستثمار

yousufh@omaninvestgateway.com